هل تشكل لقاءات باريس الإطار العام لوقف إطلاق النار الشامل في غزة ؟

المقاومة
المقاومة

شكلت لقاءات باريس المطبخ الرئيسي لرسم "الإطار العام" لعملية تبادل الأسرى ووقف العمليات القتالية في قطاع غزة. وعقد الاجتماع الأول في باريس، في 28 كانون الثاني/ يناير 2024، بمشاركة وفود كلٍّ من الاحتلال "الإسرائيلي" والولايات المتحدة وجمهورية مصر العربية ودولة قطر[1]، وقد سلمت حركة حماس ردها على المقترح الذي قدمه الاجتماع الأمني في باريس بوثيقة تفصيلية ذكرت أنها تمت بعد مشاورات وطنية، أدخلت خلالها تعديلات على مقترح باريس بجداول زمنية واضحة، تتعلق بوقف إطلاق النار والإعمار وعودة النازحين وتوفير الإيواء العاجل وإخراج الجرحى ورفع الحصار[2].

ما بعد اجتماع باريس الأول، ورد حركة حماس التفصيلي، شهدت المفاوضات جولات مكوكية برعاية مصرية - قطرية وبمشاركة أميركية مباشرة عبر وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية الأميركية[3]، وصولًا إلى انعقاد اجتماع باريس الثاني الذي قدم إطارًا مُحدثًا لصفقة التبادل المنظورة والمرحلة الأولى من التهدئة[4].

حملت النسخة المتداولة المعنوَنة بـ "بناء جسر للمرحلة الأولى من الاتفاق الشامل"[5]، الهادفة إلى جسر الاختلافات، المؤرَّخة بتاريخ 22 شباط/ فبراير 2024، العديد من العناوين في إطار الرد على ما تقدم من حركة حماس.

تقدِّم هذه الورقةُ تحليلَ وضع المفاوضاتِ الحاليةِ الهادفةِ إلى الوصول إلى المرحلة الأولى من اتفاق وقف مؤقَّت/ دائم لإطلاق النار في قطاع غزة، والمنوي الوصول إليه قبل حلول شهر رمضان. وتستند الورقة إلى تحليل المضمون عبر مقارنة الوارد في النسخة المُحدَّثة من إطار باريس بما ورد في رد المقاومة الفلسطينية الذي قدمته حركة حماس إلى الوسطاء على مقترح باريس الأول، وتقدير موقف المقاومة المُتوقَّع من المُقترَح المُحدَّث، مع ملاحظة نقاط القوة والضعف وهامش المناورة المتاح في ضوء الاعتبارات الدولية والإقليمية والواقع الميداني والإنساني.

أولًا: أبرز الاختلافات

1. شاحنات المساعدات:

حددت المقاومة عدد 500 شاحنة يوميًّا كحد أدنى للمساعدات[6]، بينما يضع مقترَح باريس المُحدَّث هذا العدد كحد أقصى يجري السعي إلى الوصول إليه[7]، بصيغة فضفاضة وغير مُلزِمة، بينما تجنَّب نَصُّ الإطار المُحدَّث لباريس الإشارةَ إلى الوقود بوصفه جزءًا من الشاحنات المنوي إدخالها، واقتصر البند على "المساعدات الإنسانية" حصرًا، وتجاوز النص أيضًا أي إشارة إلى توزيع المساعدات بكميات مناسبة إلى كل مناطق القطاع، خاصةً شمال قطاع غزة وفقًا لمطلب المقاومة في ردها.فتح المعابر:

اقتصر إطار باريس المُحدَّث على تحديد فتح معبري رفح وكرم أبو سالم، واقتصار فتح المعبَرَين على إيصال المساعدات، مع تجنُّب أي إشارة إلى حريةِ حركة المسافرين ورفعِ القيود عن خروج الجرحى بما ينسجم مع مطلب المقاومة في ردها على مقترَح باريس الأول.

فيما يَحمل إطار باريس المُحدَّث إشارةً واضحةً إلى الممر البحري مع قبرص بوصفِه خيارًا لإيصال المساعدات، من دون وجود موقف جمعي من المقاومة من هذا الخيار، الذي يُنظر إليه بعين التشكيك والتحذير من أهدافه فلسطينيًّا.

2. المساكن المؤقَّتة وإعادة الإعمار:

في الوقت الذي عُدَّ فيه إطار باريس المُحدَّث الأرقام الواردة في رد المقاومة حول عدد الخيام والمساكن المؤقتة (200,000 خيمة، و60,000 كارفان أو مساكن مؤقتة) سقفًا يُعمل للوصول إليه، نَصَّ رد المقاومة على أن هذه الأرقام تُشكِّل الحدَّ الأدنى المطلوب للانطلاق منه.

لحظ إطار باريس المُحدَّث عملية إعادة إعمار المستشفيات والمخابز وإدخال المُعدات الثقيلة اللازمة لإزالة الركام، إلا أنه قيَّد دخول الوقود بالحاجة المحدَّدة اللازمة لعمل هذه الآليات والمخابز والمستشفيات؛ ما يُشير إلى أنَّ عملية إدخال الوقود ستبقى مقلَّصة وفق احتياجات محدَّدة فقط.

كما تجنَّب الإطار تقديمَ أي إشارة إلى متطلبات المقاومة بخصوص البنية التحتية والترتيبات المستدامة لخطط الإعمار، وإصلاح شبكات الكهرباء والاتصالات والمياه، وتجنَّب الإشارة كذلك إلى عملية تشغيل محطة توليد الكهرباء والوقود اللازم لها، أو التزام الاحتلال بمسؤولياته بتوفير احتياجات قطاع غزة الأساسية من ماء وكهرباء.

 3. انسحاب الجيش ووقف الطيران والاستطلاع:

ينص الإطار المُحدَّث على أن إعادة التموضع ستجري في خلال إطار زمني (بعد الشروع في المرحلة الأولى)؛ أي إن عملية إعادة تموضع القوات ستجري في خلال أيام المرحلة الأولى وليس بالضرورة منذ بدايتها، وهذا مخالف لمطلب المقاومة بأن تُجري قوات الاحتلال عمليةَ إعادة "تمركُز".

كما ينص على أن إعادة التموضع ستكون بعيدًا عن المناطق "المكتظة" بالسكان، فيما نَصَّ مطلب المقاومة على أن تكون من المناطق "المأهولة"، وهو فارق كبير في المضمون ما بين المصطلحَين؛ لأن مصطلح "المكتظة" فضفاض يسمح ببقاء قوات الاحتلال في عدد كبير من المحاور المركزية والرئيسية من أراضي القطاع تحت مبرِّر أنها مناطق "غير مكتظة"، فيما تشمل كلمة "المأهولة" كل المناطق الحضرية بالقطاع، وهو ما حددته المقاومة بالانسحاب (لتكون بمحاذاة الخطّ الفاصل شرقًا وشمالًا).

أما ما يتعلق بالنقطة المتعلقة بطائرات الاستطلاع، بينما طلبت المقاومة وقفًا كاملًا لكل أشكال النشاط الجوي بما فيها الاستطلاع، يحدِّد إطار باريس المُحدَّث عددَ الساعاتِ التي سيتوقف فيها الاستطلاع بثماني ساعات يوميًّا، يجري الاتفاق على جدولها، وهذا فارق كبير بين الصيغتين.

 4. عودة النازحين إلى شمال قطاع:

خلافًا لمطلب المقاومة، ينص إطار باريس المُحدَّث على عودة مجزَّأة ومشروطة لأهالي شمال قطاع غزة، ومُستثنى منها فئة الشباب من الذكور (الرجال من سن الخدمة العسكرية)، والحديث عن تحديد العودة بالأعداد والفئات والمناطق، فيما كان طلب المقاومة العودة غير المشروطة للنازحين إلى أماكن سكنهم في جميع مناطق القطاع.

كما خَلَا إطار باريس المُحدَّث من أي إشارة إلى مطلب المقاومة حول حرية الحركة، وحرية التنقل دون عوائق بكل وسائل النقل في جميع مناطق القطاع، خاصةً من الجنوب إلى الشمال.

5. تبادل الأسرى:

على الرغم من أنَّ تحسُّن النسبة المطروحة للتبادل في إطار باريس المُحدَّث، فإنَّ الفارق كبير جدًّا بين مطلب المقاومة، والوارد في الإطار المُحدَّث؛ إذ لا تغطِّي النسبةُ المطروحةُ (مقابل المحتجزين الـ40 المدرجين تحت الفئة (الإنسانية)، سيتم إطلاق سراح نحو 400 من المسجونين الفلسطينيين تقريبًا وفق للنسبة 1:10) مطلبَ المقاومةِ بأن تقضي المرحلة الأولى بإطلاق سراح جميع الأسرى في سجون الاحتلال من النساء والأطفال وكبار السن (فوق 50 عامًا) والمرضى الذين اعتُقِلوا حتى تاريخ الاتفاق بلا استثناء.

وفيما تطالب المقاومة بنحو 500 أسير من المحكومين بالمؤبدات، يقضي الإطار المُحدَّث لباريس بتسميه ما مجموعه 15 أسيرًا من "الأحكام الثقيلة"، مقابل المجندات الخمس الأسيرات لدى المقاومة.

يتوافق مطلب المقاومة بإطلاق سراح أسرى "شاليط"، مع الوارد في إطار باريس المُحدَّث، وهو مطلب ثابت للمقاومة منذ سنوات طويلة، وقد كان المُعطِّل لإتمام صفقات تبادل مقابل الجنود الأسرى في غزة منذ حرب 2014.

ثانيًا: عناوين طرحَتها المقاومة، وتجاوَزَها إطار باريس

تحسين أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال ورفع الإجراءات والعقوبات التي اتُّخِذَت بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وقف اقتحامات وعدوان المستوطنين "الإسرائيليين" على المسجد الأقصى وعودة الأوضاع في المسجد الأقصى إلى ما كانت عليه قبل العام 2002.

توفير معدّات الدفاع المدني، ومتطلّبات وزارة الصحة.

البدء في إعمار وإصلاح البنية التحتية في جميع مناطق القطاع، وإعادة تأهيل شبكات الكهرباء والاتصالات والمياه.

إقرار خطَّة إعمار البيوت والمنشآت الاقتصادية والمرافق العامَّة التي دُمِّرت بسبب العدوان، وجدولة عمليَّة الإعمار في مدَّة لا تتجاوز ثلاث سنوات.

استئناف كل الخدمات الإنسانية المقدَّمة إلى السكَّان في كل مناطق القطاع، من قبل الأمم المتحدة ووكالاتها وخاصّة "أونروا" وجميع المنظَّمات الدولية العاملة لمباشرة عملها في جميع مناطق قطاع غزة كما كانت قبل 77 تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

التزام الاحتلال بتزويد غزة باحتياجاتها من الكهرباء والماء.

 تجاوَزَ إطارُ باريس التطرقَ إلى كل العناوين المتصلة بالوقف المستدام لإطلاق النار، والعناوين الجدية للبدء بمرحلة إعادة الاعمار، والعناوين المرتبطة بقضايا خارج قطاع غزة، مثل أوضاع الأسرى في سجون الاحتلال، والأوضاع في المسجد الأقصى، إضافةً إلى تجاوزه الحديثَ عن المتطلبات الأساسية في القطاع، خصوصًا الكهرباء والماء، واستئناف خدمات المؤسسات الدولية، خاصةً "أونروا" في كل مناطق قطاع غزة، وحُصِر الإطارُ المُحدَّث في تفاصيل محدَّدة مرتبطة بالتهدئة المؤقَّتة ومتطلبات التبادل.

التحليل

على الرغم من الهوة الكبيرة ما بين طلبات المقاومة في إطار ردها على إطار باريس الأول، فقد شهد الإطارُ المُحدَّثُ اختراقاتٍ جوهريةً في العديد من العناوين التي سبق أن أبدى الاحتلال تصلبًا كبيرًا فيها، خاصةً في عناوين عودة النازحين إلى مناطق شمال قطاع غزة، وإن كانت الصيغة محدَّدة ومحدودة.

في الجانب المتعلق بالتمييز بين الأسرى المدنيين والأسرى الجنود، قَبِلَ الاحتلال بمعادلة التمييز، وإرفاق أسرى من (الأحكام الثقيلة) مقابل كل مجندة؛ ما يفتح المجال لأن تكُون المعادَلة أكبر في تبادل المجندين.

في معادلة الأعداد، تضاعفت النسبة ما بين التبادل الجزئي في التهدئة الأولى، والمرحلة الأولى في الإطار المُقدَّم، إلى أكثر من ثلاثة أضعاف النسبة السابقة، مع تضاعف أكبر فيما يتعلق بالمجندات، وعلى الرغم من بُعدِه عن السقف الذي تُطالِب به المقاومة، فإنه يَعكس وجودَ اختراقٍ وإزاحةٍ في موقف الاحتلال.

إنَّ الإزاحة في موقف الاحتلال من الأعداد والنسب والنوعية في الصفقة المنظورة للأسرى تَعكس أنَّ عاملَ الزمن، بقدر ما يُشكِّله من استنزاف للمقاومة، يُشكِّل استنزافًا للاحتلال، خاصةً بعد تعاظُم القناعة بانعدام جدوى الخيار العسكري في تحرير أسرى الاحتلال لدى المقاومة، وأن الضغوط الكبيرة التي يمارسها أهالي أسرى الاحتلال على حكومتهم باتت تؤتي أكلها.

تُمثِّل نقطةُ تفاصيلِ الانسحاب، ما بين المناطق "المكتظة" والمناطق "المأهولة" نقطةً جوهريةً في قَطع الطريق أمام أي مطامح عدوانية مستقبلية لاستئناف الاحتلال حربَه على قطاع غزة ومراكمته على رؤوس الجسور المثبَّتة في محاور متعددة من أراضي قطاع غزة، لتمثِّل رأس أي هجوم بري مستقبلي في حال أنَّ المسار الحالي لم يتطور إلى مسار لوقف مستدام لإطلاق النار؛ إذ يسعى الاحتلال إلى ترك الباب مواربًا لاحتمالات استئناف العدوان على القطاع بعد انتهاء المرحلة الأولى، أو حتى في خلالها.

إنَّ تجنُّب إطار باريس المُحدَّث تناوُلَ أي عنوان من العناوين الإستراتيجية في اتفاق التهدئة يَهدف بدرجة أساسية إلى ترحيل الملفات المتفجرة إلى مراحل متقدمة من المفاوضات، إلا أن تجاوُز الحاجات الحياتية الرئيسية لأهالي القطاع المرتبطة بإدخال الوقود غير المشروط، واستئناف عمل محطة توليد الكهرباء وترميم البنى التحتية للكهرباء والماء والاتصالات، لا يعكس مؤشرًا إيجابيًّا حول احتمالات وجود تدخلات إنسانية ملموسة في التجاوز الأولي لآثار العدوان الكارثية على مقومات الحياة الأساسية.

صِيغَ إطار باريس المُحدَّث بما يتناسب مع المقاييس "الإسرائيلية"، وبما يتجنب أي إشارة يمكن أن تُعطي مجلس الحرب مبرِّرًا للتنصل من الضغوط الدولية الحالية للوصول إلى صفقة قبل شهر رمضان، إلا أنه راعى العديد من المطالب التفصيلية التي أرفقتها المقاومة في ملحَق ردها على إطار باريس السابق، ويفتح المجال للوصول إلى صيغة توافقية للبدء في المرحلة الأولى في الإطار الزمني المنظور.

خاتمة

على الرغم من وجود هوة كبيرة في بعض التفاصيل ما بين طلبات المقاومة التي قَدَّمَت في خلالها مرونةً كبيرةً في معرض ردها على إطار باريس الأول، فإنَّ ما ورد في الإطار المُحدَّث يمكن أن يُشكِّل أرضيةً للبناء عليها للوصول إلى اتفاق في المدى الزمني المتاح قبل شهر رمضان[8].

يمثِّل عنوانَا عودة النازحِين إلى شمال قطاع غزة، وتفاصيل إعادة تموضع قوات الاحتلال خارج المناطق الحضرية في القطاع، عنوانَين محوريَّين للمقاومة[9]، كونَهما يشكِّلان محددًا رئيسيًّا في احتمالات استئناف القتال، وسيُسهم تحقيقهما وفق شروط المقاومة في إبعاد شبح استئناف العدوان إلى مسافات أوسَع، أو تحويل هذا الخيار إلى خيار أصعَب على الاحتلال، كما أنَّه يقلِّص من سقف الاحتلال القادم في مفاوضات استكمال التهدئة للوصول إلى وقف إطلاق النار.

على الرغم من الهوة الكبيرة بين الأرقام التي طلبتها المقاومة للتبادل وما بين المطروح في إطار باريس المُحدَّث، يمكن أن تتجاوز المقاومة عن القيمة العددية، مقابل رفع النوعية، وفي هذا الإطار يُشكِّل ضمانُ إطلاقِ سراحِ أسرى صفقة "شاليط"، وجزءٍ من أصحاب المحكوميات الكبيرة، عاملًا مهمًّا في تحفيز المقاومة للمضي قدمًا في الصفقة على الرغم من فارق النسبة العددية.

في التفاصيل الإستراتيجية من مَطالب المقاومة المرتبطة بأوضاع الأسرى في سجون الاحتلال والأوضاع في المسجد الأقصى، من المرجَّح أن تُرحِّل المقاومةُ نقاشَ هذه العناوين إلى مراحل أكثر تقدمًا من المفاوضات على الأسرى الأكثر نوعية، وضمن مسار الإيقاف الشامل لإطلاق النار.

ستُشكِّل الفرصةُ المتاحةُ وفق هامش زمني محدود، وبضغط دولي وإقليمي كبير، للوصول إلى رمضان هادئ، فرصةً محوريةً للوصول إلى اتفاق يدشِّن مسارًا يمكن أن يتطور إلى وقف شامل لإطلاق النار، مع الأخذ في الحسبان أن المقاومة ستبدِي مرونةً في الشق المرتبط بتجزيء المراحل وألَّا تُعَدَّ المرحلةُ الأولى بدايةً فعليةً لوقف شامل لإطلاق النار، وذلك مقابل تعهُّدٍ جوهريٍّ من اللاعبِين الدوليِّين، بأن مسار التهدئات الحالي سيُشكِّل مسارًا جديًّا لوقف مستدام لإطلاق النار.