مضامين تحمِلها عمليات إنزال المساعدات إلى غزة عبر الجو

مساعدات عبر الجو
مساعدات عبر الجو

في خطوة عُدَّت بأنها الأكبر من نوعها، تتابعت الإعلانات منذ 26 فبراير/شباط 2024 حتى نهاية الشهر عن تنفيذ مصر والأردن والإمارات وقطر والبحرين وسلطنة عُمان وفرنسا عمليات إنزال جوي لمساعدات إلى قطاع غزة، الذي يتعرض منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 لحرب إبادة "إسرائيلية" خلَّفت عشرات الآلاف من الشهداء المدنيين معظمهم أطفال ونساء، فضلًا عن كارثة إنسانية غير مسبوقة ودمار هائل في البنية التحتية.

على الرغم من أنَّ الجزء الغالب من المساعدات المُنزلة جويًّا إلى أكثر البقع حاجة لها لم تصل، خاصةً في شمال قطاع غزة الذي يعاني من مجاعة حقيقية أدت إلى استشهاد ثلاثة عشر طفلًا نتيجة الجوع والجفاف، وفقًا لتصريح مدير مستشفى كمال عدوان شمال القطاع، فإنَّ التوسع الكبير في عدد الدول المنخرطة في اتباع هذه الطريقة في إيصال المساعدات إلى قطاع غزة يَفتَح بابَ التساؤلات حول المغزى والأهداف من هذه السياسة. تبحث ورقة القراءة في الحدث، من إعداد برنامج الإنتاج المعرفي في مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، في التساؤل حول خلفيات ومضامين هذا القرار، ومدى جديته في تخفيف معاناة أهالي القطاع الرازحين تحت حرب إبادة تُستخدَم فيها كل الأسلحة، بدءًا من أطنان المتفجرات وصولًا إلى التجويع، وقد قاربت على الدخول في شهرها السادس.

ما بين الدعاية وفعالية الخيار

نفَّذ الجيش الأردني أول عملية إنزال في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 استهدفت إيصال مساعدات طبية ودوائية عاجلة جويًّا إلى المستشفى الميداني الأردني في قطاع غزة، فيما تتابعت على فتراتٍ إعلاناتُ الجيش الأردني عن تنفيذ عمليات مشابهة، تركزت بدرجة أساسية على إيصال الإمدادات إلى المستشفيات الأردنية الميدانية في شمالي وجنوبي القطاع.

حرص الأردن، منذ أول عملية إنزال جوي للمساعدات للمستشفى الأردني الميداني في القطاع، على تنفيذ تغطية إعلامية واسعة للخطوة، وتظهيرها بشكل فاقع جدًّا، ما يَعكس أن في خلفيات الفعلِ أهدافًا مرتبطةً بالرأي العام، الأردني والعربي، الذي ضجَّ بمشاهد الموت والدمار في القطاع، وحالة العجز العربي الرسمي عن تقديم إسناد فعلي للشعب الفلسطيني.

شكَّل عنوانُ دخول المساعدات إلى قطاع غزة عنوانَ أزمةٍ منذ اليوم الأول للعدوان المستمر، إذ منع الاحتلال "الإسرائيلي" في الأيام الأولى من العدوان دخول أي نوع من أنواع المساعدات إلى القطاع، بما فيها ما كان يجب أن يدخل عبر منفَذ رفح البري الذي لا يخضع للسيطرة "الإسرائيلية" المباشرة.

ضجَّت المنظمات الدولية بتقارير عن حجم الأزمة الإنسانية المتفاقمة في القطاع، وحالة المجاعة الحقيقية التي باتت تضرب مناطق شمال قطاع غزة القابعة تحت حصار مشدد وعدوان يومي مستمر يستهدف كل مقومات الحياة بهدف دفاع سكانه إلى النزوح قسرًا، إذ سخَّر الاحتلال سلاح التجويع للانتقام ممَّن رفض من سكان شمالي القطاع النزوحَ إلى جنوبيه بفعل العدوان العسكري المباشر والمجازر الكبرى.

وفقًا لوكالات الأمم المتحدة، يعتمد جميع سكان غزة على المساعدات للبقاء على قيد الحياة في ظل غياب القدرة على إنتاج أو استيراد الغذاء. لا تستطيع المساعدات الإنسانية وحدها تلبية الاحتياجات الأساسية لسكان القطاع والكميات أقل بكثير مما هو مطلوب لمنع مزيج قاتل من الجوع وسوء التغذية والمرض، وينتشر نقص الغذاء والمياه النظيفة والمساعدات الطبية بشكل حاد في المناطق الشمالية.

ذكَرَ رؤساءُ برنامج الأغذية العالمي، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)، ومنظمة الصحة العالمية، أن إيصال الإمدادات الكافية إلى غزة، وفي داخلها، يعتمد على فتح المزيد من المعابر الحدودية؛ والسماح لعدد أكبر من الشاحنات بالمرور عبر نقاط التفتيش الحدودية يوميًّا؛ والحد من القيود المفروضة على حرية حركة العاملين في مجال تقديم المساعدة الإنسانية؛ وضمانات السلامة للأشخاص الذين يحتاجون إلى المساعدات وكذلك من يوزعونها، وذكروا أن ثمة حاجة ماسة إلى تغيير جذري في تدفق المساعدات الإنسانية إلى غزة مع تزايد خطر المجاعة، وتعرض المزيد من الناس لتفشي الأمراض الفتاكة.

أشار أحدَث تقرير للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC) إلى مستويات مدمرة من انعدام الأمن الغذائي في غزة، وأكد التقرير أن جميع سكان غزة –نحو 2.2 مليون شخص– "يعانون أزمة أو مستويات أسوأ من الانعدام الحاد للأمن الغذائي"، وقال إن جميع سكان القطاع تقريبًا يمضون أيامًا كاملةً دون تناول الطعام، وإن العديد من البالغين يعانون الجوع كي يتمكن الأطفال من تناول الطعام، وحذَّر التقرير من حدوث مجاعة إذا استمرت الظروف الحالية.

تلا توسيعَ عمليات الإنزال ومشاركة دول أكثر فيها إعلانُ الولايات المتحدة دراسةَ إمكانيةِ إسقاطِ المساعدات جويًّا على غزة، مع تفاقم الأزمة الإنسانية هناك، و"فشل المساعدات في الوصول إلى سكان القطاع الذي مزقته الحرب". وقال أحد المسؤولين الأمريكيين إن إمكانية الإنزال الجوي "تجري دراستها بجدية بناءً على الظروف على الأرض".

من جانبها، عدَّت مستشارة الاتصالات للمجلس النرويجي للاجئين، "شاينا لو"، أن عمليات الإنزال الجوي للمساعدات تشير إلى أنه "لا يمكن توزيعها بأمان على الأرض في غزة، وهو أمر مثير للسخرية"، وتابعت: "تنفيذ عمليات إنزال جوي أمر مكلف للغاية وغير فعال، وثمة قيود على كمية البضائع التي يمكن إسقاطها، وتسيطر إسرائيل أيضًا على السماء"، وعدَّت "لو" أن الشكل الأجدى لإيصال المساعدات يتمثل بإدخال آلاف الشاحنات المتكدسة على معابر القطاع دون قيود، مضيفة: "نحتاج أن نكون قادرين على إدخالها ونحتاج إلى ضمانات بأننا نستطيع التحرك في جميع أنحاء غزة للوصول إلى الأماكن التي يوجد فيها جميع الناس المحتاجين، وهم في كل مكان، من أجل الحصول على المساعدات لهم".

مضامين تَحمِلها عملياتُ الإنزالِ الجوي

يفتح الانخراطُ الواسعُ من قبل دول متعددة في عمليات الإنزال الجوي التساؤلَ حول ما يحمله هذا التوجه من مضامين وأبعاد، نلخص أبرزَها بتالي:

التهرب من المسؤولية الأخلاقية: يُشكِّل انتشارُ المجاعةِ في محافظات شمال قطاع غزة، وتسجيلُ حالاتِ الموتِ جوعًا بين الأطفال والمرضى، عاملَ ضغطٍ أخلاقيًّا وقيميًّا على دول العالم الصامتة بشأن عمليات الإبادة المستمرة بحق أهالي القطاع، ما يدفع هذه الدول إلى البحث عن وسائل تعفي بها نفسَها من هذه المسؤولية، دون الاضطرار إلى ممارسة الضغط الحقيقي والفعلي على الاحتلال لإدخال المساعدات، أو تفعيل خيارات إلزامية أخرى لضمانِ أوسَعِ دخولٍ ووصول للمساعدات إلى كل أراضي القطاع بلا استثناء.

الدعاية في مواجهة الرأي العام الشعبي: تتصاعد الأصوات الغاضبة، التي تحولت إلى رأي عام شعبي في دول العالم، والمنادية بوقف حرب الإبادة المستمرة في القطاع، والتي كان آخرها حادثة حرق الطيار الأمريكي "آرون بوشنيل" احتجاجًا على استمرار الحرب، ما يشكِّل ضغطًا كبيرًا على هذا الدول التي باتت تحتاج إلى خطوات دعائية لمواجهة هذا الضغط.

البحث عن مسارات جديدة لإيصال المساعدات: شكَّلت معضلةُ المعابر والتعنت "الإسرائيلي" في إدخال المساعدات، والتعطيل المُسهَّل من حكومة الاحتلال لآلية دخول المساعدات عبر معبر "كرم أبو سالم"، بمبرر وجود تظاهرات لأهالي أسرى الاحتلال لدى المقاومة تمنع وصول الشاحنات، دافعًا إلى بحث عدد من الأطراف عن مسارات بديلة لإيصال المساعدات إلى القطاع.

إيجاد بدائل عن منفَذ رفح البري في حال تنفيذ عملية عسكرية في محور فيلادلفيا: تُشكِّل تهديداتُ الاحتلالِ المستمرةُ بتنفيذ عملية عسكرية في محافظة رفح، وتحولها إلى منطقة قتال، عاملَ تهديد مباشر لآلية دخول المساعدات بشكلها الحالي، إذ إن تحوُّل رفح إلى منطقة قتال، بما يشمل محور فيلادلفيا الحدودي، سيؤدي إلى إخراج كل من معبرَي رفح و"كرم أبو سالم" عن الخدمة، ما يستدعي البحث عن بديل وسط جدية التهديدات "الإسرائيلية".

تجاوُز منظومة الحكم الحالية في القطاع: يُعَدُّ تفكيك وتجاوُز منظومة الحكم والعمل الرسمي والأمني في القطاع أحدَ أهداف الحرب التي رفعتها حكومة الاحتلال، وتتفق معها الولايات المتحدة في جوهرِه. وفيما لم تفلح كل عمليات الاستهداف للمنشآت والأفراد الناشطين في العمل الحكومي، خاصةً المرتبطين بدرجة أساسية بملف تأمين وتسهيل دخول المساعدات، فإن البحث عن خيارات لتجاوز هذه الممرات الحكومية الإجبارية يحوِّل خيارَ الإنزال الجوي إلى خيار مقبول "إسرائيليًّا"، خصوصًا بعد فشل محاولات خلق بدائل محلية متعاونة مع الاحتلال تتولى مسؤولية استلام المساعدات.

خلاصة

تتداخل العديد من العوامل المؤثِّرة في توسيع قرار تنفيذ إنزالات جوية للمساعدات على قطاع غزة، فما بين اشتداد الأزمة الإنسانية وتفاقمها في القطاع، والحجة الأخلاقية والقيمية المُقامة على دول العالم مزدوجة المعايير وضغط الرأي العام، والموقف "الإسرائيلي" المتعاون مع هذا الخيار، تُفتَح العديد من التساؤلات حول المستفيد من مثل هذه الخطوة التي يمكن أن تُؤخَذ في سياقاتِ إعفاءِ الاحتلالِ من الاستحقاق الأساسي المرتبط بالسماح الفعلي والكامل بدخول المساعدات لكل القطاع دون استثناء.

في الإطار ذاته، فإن انسجام العديد من مضامين هذا الشكل مع حاجات الاحتلال "الإسرائيلي" الميدانية إلى خلق بدائل عن حيوية معابر رفح الحدودية، وعن أشكال لتجاوز منظومة الحكم القائمة، إضافةً إلى الحاجة إلى مادة جديدة تَخدِم دفاعَ دولة الاحتلال عن نفسها أمام محكمة العدل الدولية، يضع هذه الطريقةَ موضعَ تساؤل، خصوصًا مع انعدام وجود أثر فعلي على الأرض لما جرى إنزاله من المساعدات، وأنها لم تَستهدِف استهدافًا مُركَّزًا أكثرَ الأماكنِ معاناةً من الجوع والحصار في شمال قطاع غزة، على الرغم من الإعلانات الرسمية عن كون هذه المناطق ضمن مناطق الاستهداف بالإنزال.

لا يُعَدُّ البحث عن خيارات إبداعية لإيصال المساعدات سلوكًا سلبيًّا، إلا أن التهرب من الاستحقاقات الفعلية لإيقاف العدوان وحرب الإبادة المستمرة على قطاع غزة، ومن فتح كل المعابر والسماح الكامل بوصول المساعدات بكل الأشكال لمستحقيه، يُعَد سلوكًا سلبيًّا، خصوصًا وإن كان يؤمن للاحتلال وداعميه دعايةً كافيةً تواجِه فيه الضغط الشعبي ومواقف المؤسسات الدولية المطالبة بإيقاف الكارثة الإنسانية والإبادة المستمرة بحق أهالي القطاع.