الدوران حول المشكلة وليس الاقتراب منها بقلم : عاطف الغمري

الدوران حول المشكلة وليس الاقتراب منها  بقلم : عاطف الغمري
الدوران حول المشكلة وليس الاقتراب منها بقلم : عاطف الغمري

الدوران حول المشكلة وليس الاقتراب منها

بقلم : عاطف الغمري

عادة يقود الدوران من بعيد حول المشكلات، من دون الاقتراب منها، إلى خلق شعور وهمي بأن المشكلة قد تلاشت، في عيون من ينظر إليها بهذه الطريقة، وكأنها في نظره غير موجودة، والنتيجة هي تفاقم الوضع، وضياع القدرة على الحل .

إن الإرادة السياسية لرجل الدولة، يتأكد وجودها، من التأمل المتعمق في المشكلة القائمة، والتعامل معها، بإشراك أصحاب الخبرة والمعرفة، في تشخيصها، وإجراء دراسات تفصيلية عنها، والدخول في مناقشات في البدائل الممكنة للحل، ثم اختيار الأفضل والأنسب منها، فعلى ضوء الإمكانات المتاحة مع ضرورة إحاطة الرأي العام - صاحب المصلحة الأولى في الحل، والمتأثر قبل غيره بالمشكلة - بحقيقة الوضع، في وضوح تام وشفافية كاملة .

ينطبق هذا على أي مشكلة، سواء كانت اقتصادية، أو تعليمية، أو صحية، أو أمنية، وغيرها من المشكلات .

يتعلق ذلك بقضايا لها أولوية قصوى بالنسبة إلى المصريين الآن، فمصر من بعد ثورة 25 يناير، واجهت مهمة إعادة بناء الدولة، بجميع قطاعاتها ومرافقها، وبصورة جديدة، تعوض ما فات من تراجع، وتلحق بدول سبقتها في آسيا وأمريكا اللاتينية، وبعضها في إفريقيا، بينما مصر تملك من الموارد ما يفوق ما هو متوافر لدى هذه الدول .

وكان سبب ذلك، هو غياب الإرادة السياسية، والإدارة الواعية معاً، التي يعبر عنها منطق تفكير رجل الدولة، ونظرته إلى كيفية إعادة البناء، وهي نظرة لا تأتي إلا لمن لديه رؤية واضحة، وفكر استراتيجي في إدارة الدولة .

القضايا التي كان ينبغى التعامل معها على هذا النحو عديدة، سوف أركز هنا على نموذج واحد، يتمثل في المشكلة الأمنية التي تعد محل شكوى عامة اليوم من جموع المواطنين، والتي كان يفترض أن يتم التعامل معها، وفق مبدأ إعادة بناء الدولة، وهو مبدأ يلزمه وجود فلسفة لإدارة القطاع الأمني، مثله مثل بقية القطاعات الأخرى، التي تنتابها المشكلات .

بداية، فإن المشكلة الأمنية، لها أصل وجذور ممتدة إلى فلسفة النظام السابق التي قامت على استبدال المبدأ القومي للدولة، بمفهوم أمن النظام، وهو ما يعني توجيه الموارد والطاقات، نحو خدمة أمن النظام القائم، وبقائه واستمراريته، ومساندة مختلف أهدافه الذاتية .

وهو ما أدى إلى تقليص التركيز على الجانب الجنائي، من دور الأمن، لحساب الجانب السياسي منه . تفرع عن هذا المفهوم مد أذرع جهاز أمن الدولة إلى كل مكان من أرض الوطن، فكان ما يحدث، هو الرجوع إلى أمن الدولة، لأخذ رأيه، في اختيار القيادات الكبرى والمتوسطة في الحكومة، واختيار رؤساء الجامعات، وعمداء الكليات، وغيرها من مرافق الدولة، حتى وصل الأمر إلى السيطرة على إدارة الحركة المسرحية، فكانت نصوص المؤلفين، ترسل من قيادات المسرح إلى أمن الدولة، وهو الذي يقرر ما هو مسموح بعرضه للجماهير، وما هو ممنوع عليهم مشاهدته، ليس من زاوية التقييم الفني، بل من وجهة نظر أمنية بحتة . والنتيجة ركود الحياة المسرحية، بطريقة تماثلت معها حالات الركود والتراجع في أداء مختلف قطاعات الدولة .

لهذا كان ينبغي من أجل حل المشكلة الأمنية، البدء بتفكيك أصل المشكلة الذي يعوق سرعة عودة الدور الطبيعي للأمن الداخلي . وهو ما يعني وضع سياسات واضحة وقاطعة، تفصل بين دور الشرطة، وبين التداخل مع العملية السياسية، وهذا يقتضي إعادة تثقيف رجل الشرطة، لنزع موروثات فلسفة العهد السابق، من تفكيره التي تكون قد ترسبت في أعماقه، ولو عن غير وعي .

وتلك مهمة لا يمكن أن تترك لقيادات الشرطة وحدها، بل يشركون فيها معهم، خبراء متخصصين في مجالات الدراسات القانونية، وحقوق الإنسان، وعلم النفس، وغيرها، وأن يكون هناك تركيز على معنى دولة القانون، وتقديم نماذج لها من ممارسات تجري في دول أخرى .

إن مثل هذه الخطوات - لو كانت قد اتبعت - من شأنها إعادة ترتيب منظومة العمل الأمني الداخلي، وفق فلسفة إعادة بناء الدولة، بما يزيل أي فجوه قائمة بين المواطن والشرطة، وبما يقرب بينهما فلا يمكن لأيهما أن يستغني عن الآخر، فالاحتياج بينهما متبادل وضروري، وهو ما يقود إلى حماية المواطن، وشعوره بالأمن، وأيضاً شعور رجل الشرطة بأمانه، طالما أنه يؤدي واجبه وفقاً للقانون، وأنه عندما يتصدى لأي خروج على القانون، فهذا حق له، وواجب عليه، لمصلحة الوطن والمواطنين .

ومن الواضح أن الوضع الحالي للمشكلة الأمنية، ينعكس بتأثير سلبي على بقية المشكلات الأخرى، وطالما استمر على حاله، فهو يظل عنصر إعاقة لحل بقية المشكلات، وفي مقدمتها المشكلة الاقتصادية .

باختصار،  إن أي واحدة من المشكلات التي يعانيها المصريون اليوم، لا يمكن أن تحل بطريقة الدوران حولها من بعيد، دون الاقتراب منها، أو بالنظر إلى ما هو ظاهر على السطح، بغير النفاذ إلى عمق المشكلة، ولابد من التعامل ابتداء مع الأسباب الأولية التي أوجدتها وأظهرتها .

وهذا يحتاج إلى رؤية نافذة لكل مشكلة واحتواء المشكلات جميعها، في إطار رؤية استراتيجية، تحقق مبدأ أساسياً لثورة 25 يناير، وهو مبدأ إعادة بناء الدولة .

ويشترط للنجاح في هذا الطريق، الاستناد إلى أهل الخبرة، والتخصص، والمعرفة، والتخلص من نزعة النظام في الركون إلى أهل الثقة، حتى لو كانوا معدومي الكفاءة في المجال الذي يتم إقحامهم فيه، فهذا هو الطريق الوحيد لفهم المشكلة، والقدرة على حلها .