السادية وجنون الدم بقلم : أمجد عرار

السادية وجنون الدم   بقلم : أمجد عرار
السادية وجنون الدم بقلم : أمجد عرار

السادية وجنون الدم 

بقلم : أمجد عرار

قرار السجن ثلاث سنوات الذي أصدرته محكمة مصرية قبل أيام على ضابط شرطة “أبدع” في قنص عيون المتظاهرين في القاهرة، ما أدى إلى فقدان عدد منهم للبصر في إحدى العينين، يفتح نافذة الفكر والخيال على آفاق متشعبة للتأمل والتحليل، وربما تكون الحاجة ماسة إلى طلب المساعدة من المؤرّخين وعلماء النفس والاجتماع .

مساعدة المؤرّخين مطلوبة لمعرفة ما إذا كان تاريخ الإجرام يحتوي حالات يكون فيها الأذى غاية بحد ذاتها، بحيث يتخصص شخص في إطفاء نور البصر لخصوم ليسوا أعداء . ومساعدة علماء النفس مطلوبة لسبر أغوار النفس لهذا النوع من الكائنات الحيّة، وهو نوع لا ينتمي إلى شيء إلا لنفسه وبعض ممن يشبهونه وإن بـ “إبداع” من نوع آخر من فنون الإيذاء السادي . ومساعدة علماء الاجتماع ضرورية لمعرفة شكل البيئة الاجتماعية التي تتخرج فيها مخلوقات بهذه المواصفات المشوّهة .

محاكمة هذا الضابط جاءت، ربما، بعد أن تحوّلت إصابات العيون إلى ظاهرة متكرّرة، ثم ظهور فيديو يظهر فيه “قناص العيون” وهو يصوّب من بندقيته متعمداً في اتجاه وجوه المتظاهرين وعيونهم في حين أحد مرؤوسية يهنّئه على دقّة تصويبه . لكننا لم نعرف إن كانت المحاكمة شملت هذا المهنئ الذي يحمل الجينات السادية ذاتها، وما دام معجباً بهذا السلوك، فإنه سيتبعه بالضرورة عندما تحين أية مناسبة .

الضابط المحكوم الذي استحق عن “جدارة”، لقب “قناص العيون” برهن على قدرة الشر على أن “يبدع” في دفن المشاعر الإنسانية، وتحويل كل ما هو أمام مهداف البندقية إلى شيء لا يستحق سوى الأذى، لأن هذه الطريقة تحقّق الانتشاء للساديين . لو كان الضحايا جنوداً في جيش غزا البلاد، لقلنا إن هذا القناص يستخدم “إبداعه” في الدفاع عن وطنه عن طريق دقّة تصويبه على جنود الأعداء، فإن لم يكن بإردائهم قتلى، فبإطفاء نور عيونهم حتى يعرف كل عدو مفترض أن هذا مصير من يعتدي على أرض الآخرين وحقوقهم . لكن ضحاياه متظاهرون لم يحملوا السلاح، وكل ما كان بحوزتهم أحلام بوطن جميل وبلد لا بد لوجهها أن يشبه تاريخ مصر وعظمتها .

بالنظر إلى المرؤوس الذي بارك للضابط سلوكه فإنه ليس حالة فردية أو شاذة في مجتمعات ورثت العنف جيلاً بعد جيل، وأصبح ثقافة وجزءاً من الاعراف والتقاليد . حتى أولئك الذين يرفعون الصوت في استنكار سلوك الضابط، يمكن الافتراض أن كثيراً منهم كانوا ليفعلوا ما فعله لو كانوا مكانه . ووفقاً لثقافة التناقض هذه، يمكننا أن نرى أشخاصاً يدينون قمع الأنظمة، فيما هم يمارسون القمع حيثما أتيح لهم في المنزل والمؤسسة وأي حلقة تحيط به . ووفقاً للمنطق ذاته، نرى العنف وسيلة حسم للجدل ليس بين الأنظمة السياسية وأفراد أو جماعات من الشعب فحسب، إنما بين الجماعات والأفراد أنفسهم، سواء كانوا أحزاباً أو طوائف أو عائلات، أو حتى فرادى وضعتهم الظروف في وضع يحتاج إلى تحقيق مصالح أو حماية مكتسبات .

يمكننا العودة بضع سنوات إلى الوراء لنتوقّف عند الاقتتال الذي شهده قطاع غزة، وهناك نرى ليس حجم القتل المتبادل الذي حصل فحسب، إنما مدى الحقد والسادية اللذين رافقا عمليات القتل، حيث بدا الأمر وكأن أولئك الذين قتلوا ضحاياهم بتلك البشاعة، قد تمت تعبئتهم بطريقة جعلت من الخصوم أعداء لا مصير يستحقونه سوى القتل بطريقة غير عادية .

وفي الواقع، فإن جنون الدم هذا ليس وليد اليوم، لكننا أحفاد “أبطال” البسوس وداحس والغبراء .