نقاش الدولة المدنية بعد الثورات ... د. رضوان السيد

نقاش الدولة المدنية بعد الثورات ... د. رضوان السيد
نقاش الدولة المدنية بعد الثورات ... د. رضوان السيد

نقاش الدولة المدنية بعد الثورات

د. رضوان السيد

لا تخلو مقالة صحفية من جانب الإسلاميين وخصومهم من نقاش لمفهوم الدولة المدنية ومحاولات لتحديد خصائصها ومقتضياتها. وأسبابُ النقاش والتناحُر حول هذا المفهوم واضحةٌ الآن. فالمعارضون للإسلاميين يتهمونهم بأنهم يريدون إنشاء دولة دينية على شاكلة ولاية الفقيه الإيرانية، لكي يؤبِّدوا وجودَهم في السلطة. والدولة المدنية بحسب مثقفي المعارضات وسياسييهم- تقومُ على مبدأ المواطنة، الذي يقتضي تساوياً في الحقوق والواجبات. بينما ما يقوم به الإسلاميون أو المسمَّون بذلك إنما يرمي إلى إدخال الدين في الصراع على السلطة، زاعمين من جانبهم أنّ الدين في خَطَر، ولا بُدَّ من التأكيد عليه في الدساتير، والسير في تطبيق شريعته، التي يمسكونها بأيديهم سعياً لامتلاك المقدَّس واستعماله في كلّ الأحوال، بما في ذلك الانتخابات والقضاء والإعلام، إيهاماً للعامة أنه إن ما لم يُطبَّقْ حسبما يرون؛ فإنّ الهوية تظل مهدَّدةً، والإسلام يظل عُرْضةً للانتقاص والتضاؤل والاستهداف!

وبخلاف السلفيين؛ فإنّ الإسلاميين الآخرين، يقولون الآن عَلَناً بالدولة المدنية. وهم يؤصّلونها بعهد المدينة أو كتاب المدينة، الذي كتبه النبي صلّى الله عليه وسلّم بين الفئات التي كانت تسكن يثرب عندما هاجر عليه الصلاةُ والسلام إليها عام 622 م. وفي الكتاب أنّ المهاجرين وأهل المدينة من الأوس والخزرج واليهود، ومن لحق بهم فجاهد معهم أنهم " أمة واحدة من دون الناس". وهذا يعني قيام المجتمع السياسي في الإسلام على المواطنة والتعاقُد وليس على دين معين، لأنه كان في عهد المدينة مسلمون ويهود وربما مشركون. وهذا النزوع لدى التيارات الدينية هو للتأصيل، أي إعادة كل شيء يريدون شرعنته إلى أصل إسلاميٍّ أول. إنما من جهة ثانية أصرُّوا في الدستور المصري الجديد ليس على الإسلام دين الدولة، ومبادئ الشريعة المصدر الرئيس للتشريع وحسْب؛ بل وعلى أنّ المرجعية في تفسير "مبادئ الشريعة" للأزهر بحسب مذاهب أهل "السنة والجماعة". فإذا كانت "الشريعة" هي مصدر التشريع، فكيف تكون الدولةُ مدنيةً وقائمةً على المواطنة والمساواة وعدم التمييز.

بيد أنّ القلق على مدنية الدولة ليس متأتياً من الحرص على دسترة الشريعة وحسب؛ بل يتأتّى أيضاً من هذه الكثافة في استخدام الدين أو المقدَّس في الصراع على الأصوات في الانتخابات، وفي شرعنة التصرفات السياسية بداخل البلدان، وفي العلاقات مع الخارج. وكلُّ هذه المسائل بداخل الدستور وخارجه تستند إلى فكرة أو مقولة تطبيق الشريعة. وهذا يعني ربط "الشرعية"، شرعية النظام السياسي بتطبيق "الدين" أو استكمال تطبيقه. ولا شكَّ أنّ المشروعية التأسيسية في الاجتماع الإسلامي هي للدين، لكنّ الربط المباشر لذلك بالنظام السياسي، يحيل إدارة الشأن العامّ إلى أمرٍ ديني، فيستحيل أن تكون الأمة مصدر السلطات، بل تكون "الشريعة" المطلوب والمرغوب تطبيقُها هي واهبةُ الشرعية المباشرة لكل شيء. وهذا أمرٌ لا يخدم الدين بالذات، لأنه يُدخِلُهُ في الصراع السياسي، والشأن السياسي هو شأْنٌ مصلحي يتعلق بإدارة الشؤون العامة للناس، وهم يتولونه بأنفسهم تمثيلاً ومشاركة. وشرعيته بهذا المعنى تُصبحُ "وظيفية"، أي أنها حقٌّ قبل أن تكون واجباً، بينما الشريعة تكاليف. ونحن من جهة ثالثة في اجتماعنا البشري نحتضن الدين والشريعة، وبين الشارع وبين الجماعة عقد لا ينفصمُ:"اليومَ أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً". فالدين ليس ناقصاً ليكتمل، والشريعة ليست غائبةً لتحضر.

ولنعد إلى سياقات ظهور مسألة الدولة المدنية، والحكم المدني في السياقات الحديثة. لقد كان أول ظهور لها في النقاش الذي اندلع بين فرح أنطون صاحب مجلة "الجامعة"، والشيخ محمد عبده مفتي مصر، في مطلع القرن العشرين

(1902-1903)، فقد علَّق فرح أنطون على كتاب إرنست رينان:"ابن رشد والرشدية" بأن الرشدية فُهمت في أوروبا في العصور الوسطى باعتبارها تقول بفصل الدين عن الدولة. وإذا كان الأمر كذلك، وابن رشد مفكر مسلم وقد تعرض أيضاً للاضطهاد لفترة في حياته، فإن الفصلَ هذا، أي فصل الدين عن الدولة مثلما صلح لأوروبا، هو صالح للتطبيق في عوالم المسلمين الحديثة، لتستقيم أفكار ومبادئ المدنية والمواطنة والدستورية والتقدم العلمي الذي حَجَر عليه رجالات الكنيسة آنذاك. وقد أجاب محمد عبده عن ذلك بأنّ هذا الفصل كان مرغوباً في أوروبا، لأنّ الكنيسة استولت على الدولة، كما حجزت على العلم. وكلا الأمرين ما حصل في عالم الإسلام أو تجربته التاريخية. أما ما تعرض له ابن رشد أو غيره، فقد كان لأسباب سياسية وليس لأنّ رجال الدين أو العلم الديني ما قبلوا بما يقوم به. وهكذا يقرر محمد عبده أنّ الحكم في الإسلام مدني، أي لا تقوم عليه المؤسسةُ الدينية. ولذا ما كان هناك صراعٌ بين الدين والدولة في التجربة الإسلامية. وما احتجّ أحدٌ على قول محمد عبده أنّ الدولة أو الحكم في الإسلام مدني. إنما عندما قام آتاتورك عام 1924 بإلغاء الخلافة، فإنّ المسلمين وقع في وعيهم أنّ الغربيين هم الذين دفعوه إلى ذلك، من أجل إضعاف الإسلام، وفرض أنظمة غربية على المسلمين. ولذا فقد صُدم كثيرون بكتاب علي عبد الرازق الذي ظهر عام 1925 بعنوان: الإسلام وأُصول الحكم. فقد ذهب عبد الرازق إلى أنّ نظام الخلافة ليس نظاماً دينياً أو اقتضاه القرآن والسنة. بل هو نظام تواضَعَ عليه المسلمون الأوائل، وكانت له أزمنةٌ مجيدة وأُخرى سلبية. وأما دعوةُ النبي(ص) بحدّ ذاتها فهي دعوةٌ دينيةٌ، وليست دعوةً لإقامة دولة وسلطان باسم الدين. وقد احتجّ علماء من الأزهر في ردودهم على عبد الرازق على هذين الأمرين بالذات: أنّ النبيَّ (ص) ما أقام دولةً وسلطاناً، وأنّ الخلافة نظام حكم لا علاقة له بالدين. ثم كرروا حُجج محمد عبده لعدم فصل الدين عن الدولة، رغم استمرارهم في القول إنّ نظام الحكم في التجربة الإسلامية مدني! وهكذا ما تغير شيءٌ في الظاهر، أمّا في الواقع فإنّ الوعي تغيَّر، وظهرت حركات داعية لإعادة الخلافة، باعتبارها جزءًا من الدين، إلى أنْ وصل الأمر بعد عقود على التعبير عن استعادة الخلافة، بالقول بتطبيق الشريعة. وهذا يعني أنّ شرعية الحكم السياسي صارت ناقصة، ثم صار الأمر أنّ "شرعية المجتمع" صارت ناقصةً أيضاً، أو منعدمة بحسب أُطروحات المتشددين والجهاديين التكفيريين.

إنّ شرعية النظام السياسي تقوم على إدارة الناس، وممارستهم لحقِّهم في المشاركة في إدارة الشأن العام. وهذا يتوافقُ بالطبع مع الصيغة التعاقُدية للمجتمع السياسي والنظام السياسي، كما يظهر في وثيقة المدينة أو دستورها. فلا مانع من التأصيل لهذه الناحية، بشرط أن تجري متابعتُهُ إلى النهاية. فلا حاجة بالفعل لاشتراع علمانية قاصمة تريد مكافحة الدين ليس في الشأن العامّ فقط؛ بل في المجتمع أيضاً. ولا حرج في إرادة كثرة من المسلمين أن تحيا حياةً إسلاميةً كاملة. إنما الحرج والمغالطة في اصطناع مواجهة بين الأمة والشريعة على المرجعية. فالشريعةُ هي حياةُ المجتمع وأساسُ تماسُكِه ووحدته. والأمة هي المرجعيةُ أو مصدر السلطات في إدارة الشأن العامّ. والشريعةُ مؤثّرةٌ بأخلاقياتها وقواعدها العامة في الشأنين الخاص والعام. أمّا إذا تسلّم الشريعة حزبٌ سياسيٌّ؛ فإنّ الدين يتشرذم وينقسم، كما حصل للكاثوليكية عندما أصرَّ البابواتُ على الاستئثار باسم الدين والعصمة على المرجعية في الدين والدولة. فقد انقسمت المسيحية إلى كاثوليك وبروتستانت، ثم جرى الفصلُ المؤْلِمُ بين الدين والدولة، في حين مضى الفرنسيون قُدُماً بعد الثورة إلى محاولة إخراج المظاهر الدينية من المجتمع.

الدولة المدنية إذن تقوم على المواطنة، وأنّ الأمة مصدر السلطات. ويظلُّ الدين مَصوناً والتديُّنُ حراً ما دام لا يستتبع الدولة، ولا النظامُ السياسيُّ يستتبعُه. وهذه أمورٌ جربتها الأُمم قبلنا، فنستطيع الإفادة من تجاربها، ولا داعي للدخول من جديد في تجربة الدولة الدينية أو النظام السياسي الحاكم باسم الدين، وليس باسم الأمة.