هل ستنجح إسرائيل في إنشاء منطقة عازلة على حدود غزة.. تفاصيل مثيرة!

المنطقة العازلة
المنطقة العازلة

تتكشف كل يوم حقيقة التخبط الإسرائيلي في النظر إلى مستقبل العلاقة مع قطاع غزة بعد نهاية الحرب الحالية، وتؤكد تل أبيب- من جديد- عدم قدرتها على بناء رؤية أو تصور مقبول من الفلسطينيين والعرب بشأن ما يجب أن يكون عليه “اليوم التالي” في علاقة إسرائيل بقطاع غزة؛ فتارة يعلن بعض المسؤولين الإسرائيليين أنهم سوف يقطعون كل علاقة لهم بقطاع غزة، وأنهم سوف يغلقون المعابر الستة مع القطاع، الذي يمكن- من وجهة نظر هؤلاء- أن يعتمد على بضائع تأتي عبر “مسار بحري” مع قبرص بعد تفتيش إسرائيل لتلك البضائع في مدينة لارنكا القبرصية، وتارة أخرى تقول إسرائيل إنها تريد تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتحويله إلى ما يشبه “لاس فيجاس”؛ كمكان للسهر والترفيه في جنوب إسرائيل.

لكن آخر المحاولات الإسرائيلية هي ما كشفته صور الأقمار الصناعية عن هدم إسرائيل المناطق الحدودية مع قطاع غزة؛ تمهيدًا لإنشاء “منطقة عازلة” لعزل الأراضي الإسرائيلية عن القطاع، وتروج تل أبيب لهذه الخطط بأنها هي السبيل الوحيد لعدم تكرار ما جرى في ٧ أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.

وتختلف مساحة وعمق” المنطقة العازلة” التي تريد إسرائيل إنشاءها داخل حدود قطاع غزة حسب المسافة التي تفصل المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة عن حدود القطاع، كما تسعى إسرائيل إلى استعادة السيطرة على محور صلاح الدين (فيلادلفيا) الذي يقع على الجانب الفلسطيني من الحدود المصرية مع قطاع غزة. ورغم فشل تجارب “المناطق العازلة” في تحقيق الأمن لأي شعب أو دولة، كما أثبتت التجارب الإسرائيلية السابقة مع غزة والحدود اللبنانية، فإن إسرائيل تسعى جاهدة إلى إنشاء منطقة عازلة بطول 60 كيلومترًا، هي طول الحدود الإسرائيلية مع قطاع غزة، وهي خطة ترفضها مصر والدول العربية وكل الأحرار في العالم.

فما الأسباب التي تتكئ عليها دول مثل مصر في رفض إنشاء منطقة إسرائيلية عازلة داخل قطاع غزة؟

أولًا: ضيق مساحة قطاع غزة، التي لا تزيد على 360 كيلومترًا، موزعة على 5 محافظات، هي شمال غزة، وغزة، ودير البلح، وخان يونس، ورفح، ومتوسط الكثافة السكانية في القطاع يزيد على 5600 شخص لكل كيلومتر، حيث يسكن القطاع نحو 2.3 مليون نسمة. ووفق وكالة الأونروا، فإن الغرفة في قطاع غزة قبل الحرب كانت تستوعب شخصين؛ لأن متوسط عدد الأفراد في الأسرة بالقطاع بات 5.5 شخص عام 2022، بعد أن كان 6.5 شخص عام 2019.

ولهذا فإن إنشاء “منطقة عازلة” بعمق كيلومترين أو ثلاثة كيلومترات في القطاع سوف يخصم من المساحة الإجمالية الضيقة للقطاع، ومعروف أن حدود إسرائيل مع قطاع غزة تصل إلى نحو ٦٠ كيلومترًا، وهو ما يعني أن المنطقة العازلة لو كانت بعمق كيلومتر واحد فهذا سيخصم نحو ٦٠ كيلومترًا من مساحة القطاع، وهو ما سيقود إلى زيادة جديدة في الكثافة السكانية، وهو ما يمكن أن يقود إلى انفجار من جديد في وجه الاحتلال.

ثانيًا: تراجع القيمة العسكرية للمناطق العازلة في العالم بشكل عام، وفي الأراضي المحتلة بشكل خاص، فالفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة بات لديها صواريخ لا تصل إلى تل أبيب فحسب؛ بل إلى مدى 250 كيلومترًا في العمق الإسرائيلي، ومنها ما يصل حتى شمال إسرائيل، وقد أُطلق أكثر من 20 صاروخًا من هذا النوع منذ 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مثل صواريخ “أف 7″، وصواريخ “كورنيت”، بالإضافة الى صواريخ محلية الصنع يصل مداها إلى 150 ميلًا، وهو ما يعني أنها تستطيع أن تصل إلى كل مكان في إسرائيل، فضلًا عن المسيرات، مثل “سجيل والزواوي”، ولهذا فإن الحديث عن إنشاء “منطقة عازلة” بهدف منع الهجمات على إسرائيل أمر مبالغ فيه من الناحية العسكرية.

ثالثًا: تنسى إسرائيل وهي تطرح فكرة “المنطقة العازلة” أنها بالفعل أنشأت “جدارًا عازلًا” بين إسرائيل وقطاع غزة، والنتيجة شاهدها الجميع يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول)؛ وهي أن جرافات بسيطة أسقطت “السور الإسرائيلي العازل”، وعَبَر المقاتلون إلى داخل إسرائيل.

رابعًا: تبرر إسرائيل الفكرة بأن إنشاء “منطقة عازلة” يختلف عن إنشاء “السور العازل”؛ لأن “المنطقة العازلة” قد تمتد في بعض المناطق من كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات، وهذا أمر مردود عليه من التصريحات الإسرائيلية نفسها التي قالت إن خطط حماس في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي كانت الوصول إلى عمق 45 كيلومترًا في الأراضي الإسرائيلية، وربما الوصول الى الضفة الغربية. كذلك فإن المدقق للمدى الجغرافي الذي وصل إليه مسلحو الفصائل الفلسطينية يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، والوصول إلى مدن كبيرة، مثل عسقلان، وأشدود، وبعمق نحو 35 كيلومترًا، هو عمق “غلاف غزة”، يتأكد له أن إنشاء منطقة عازلة بعمق ثلاثة كيلومترات ليس له أي معني “إستراتيجي”، أو “عسكري”.

خامسًا: حافز لعدم الاستقرار؛ فالاحتلال الإسرائيلي المباشر لجزء من قطاع غزة من خلال إنشاء “المنطقة العازلة”، وحراستها، ووضع جنود إسرائيليين فيها، سوف يكون “حافزًا قويًّا” لكل الفصائل الفلسطينية لمهاجمة المنطقة العازلة والجيش الإسرائيلي؛ ومن ثم سوف تتحول المنطقة العازلة إلى “مساحة احتكاك” مباشر بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وخير شاهد على هذا الأمر الهروب الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005؛ فنتيجة للضربات القوية للمقاومة، لم يجد رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرئيل شارون خيارًا آخر سوى الانسحاب من قطاع غزة بريًّا، بخطة أطلق عليها اسم “خطة فك الارتباط” بين غزة وإسرائيل.

سادسًا: “مترو غزة”.. سوف تنضم أي “منطقة عازلة” في القطاع إلى ما يسمى “مترو غزة”، وسوف يفاجأ الجنود الإسرائيليون في “المنطقة العازلة” بخروج المسلحين من أنفاق تحت أقدامهم، وهو ما حدث عندما حاولت إسرائيل منع الفلسطينيين من الذهاب بالقرب من حدود غزة، فكانت النتيجة أن الشعب الفلسطيني كان يرسل البالونات الحارقة إلى الجانب الإسرائيلي من قطاع غزة ، كما أن كثيرًا من “الأنفاق” كانت عابرة لحدود القطاع، وبداخل الأراضي الإسرائيلية نفسها، وأكبر نفق اكتشفته إسرائيل حتى الآن كان يقع على بعد أمتار قليلة من “معبر بيت حانون” (إيريز) على حدود إسرائيل مع شمال غزة، وهو ما يعني أن أنفاق المقاومة سوف تمتد إلى المنطقة العازلة، وسوف تكون تلك المناطق ساحة للمواجهة من جديد بين الفصائل الفلسطينية والقوات الإسرائيلية.

سابعًا: تقليل الأراضي الزراعية؛ لأن ضم مساحة بعمق كيلومتر واحد من قطاع غزة يعني قضم أكثر المناطق الزراعية خصوبة في القطاع، وهذا الأمر سيكون له تأثير سلبي على مستويين؛ الأول: هو زيادة النقمة من سكان القطاع أصحاب هذه الأراضي التي تدر عليهم عائدًا ماليًا، والثاني: سوف ستتفاقم الأزمة الغذائية في القطاع نتيجة لعدم زراعة هذه المنطقة والمناطق المجاورة لها، التي لن تُزرع لأنها سوف تكون واقعة تحت تهديد البندقية الإسرائيلية الموجودة في المنطقة العازلة، وكلها أسباب لزيادة الاحتقان، وتعبئة مزيد من الفلسطينيين للجولات القادمة من الحرب مع إسرائيل.

ثامنًا: فشل تجربة الحدود اللبنانية؛ فإسرائيل جربت “المنطقة العازلة” من قبل في جنوب لبنان بعد حرب صيف 2006، ونص القرار رقم 1701 على إنشاء “منطقة عازلة” تقضي بأن يكون حزب الله شمال نهر الليطاني، وهو ما يعني أن كل المناطق جنوب نهر الليطاني حتى الحدود اللبنانية مع إسرائيل كانت “منطقة عازلة”، وهي مساحة كبيرة يصل عمقها في بعض المناطق إلى 30 كيلومترًا، وكيف كانت النتيجة؟ استطاعت فصائل المقاومة- بجناحيها الفلسطيني واللبناني- توجيه ضربات كبيرة بالصواريخ والمدفعية البعيدة إلى إسرائيل منذ معركة طوفان الأقصى، دون أي اعتبار لهذه المنطقة، التي لم ولن تحمى إسرائيل. واليوم، هناك ما يقرب من 100 ألف إسرائيلي في شمال إسرائيل لا يستطيعون العودة إلى بيوتهم؛ لأن صواريخ المقاومة ومدفعيتها من لبنان تطول كل شمال إسرائيل، وهو ما يعني- ببساطة- أن “المنطقة العازلة” داخل الحدود اللبنانية لم تحمِ سكانها من ضربات حزب الله، وفصائل المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان.

تاسعًا: محور صلاح الدين (فيلادلفيا).. سوف يكون مصير هذه “المنطقة العازلة” مثل مصير محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، وهو مساحة ضيقة بطول نحو 14 كيلومترًا على الجانب الفلسطيني من الحدود المصرية مع قطاع غزة، ويمتد على طول الحدود المصرية مع قطاع غزة من البحر الأبيض المتوسط شمالًا إلى معبر كرم أبو سالم جنوبًا، وقد حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرئيل شارون الاحتفاظ بهذا المحور بعد الهروب والانسحاب البري الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، وماذا كانت النتيجة؟ اضطرت إسرائيل تحت وقع ضربات المقاومة إلى الانسحاب الكامل من محور صلاح الدين (فيلادلفيا)، عام 2005.

مصر ومحور صلاح الدين (فيلادلفيا)

كان محور صلاح الدين، أو محور فيلادلفيا، جزءًا من الترتيبات الأمنية بين مصر وإسرائيل في اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979، وبعد انسحاب إسرائيل البري من قطاع غزة عام 2005، نشرت مصر 750 شرطيًّا على الجانب المصري من الحدود مع قطاع غزة؛ لمواجهة أي عمليات للتهريب كما كانت إسرائيل تدعي في ذلك الوقت، كما أن “اتفاقية المعابر” التي وقّعتها إسرائيل مع السلطة الوطنية الفلسطينية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2005 سمحت للاتحاد الأوروبي والسلطة الفلسطينية بمتابعة أي حركة في محور “فيلادلفيا”، لكن حماس سيطرت على القطاع بكامله، بما فيه “محور فيلادلفيا”، بعد معركة مع قوات حركة فتح عام 2007. وترفض مصر أي تعديل أو إضافة لاتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية تسمح باحتلال إسرائيلي دائم أو مؤقت لمحور “فيلادلفيا”، وتصر على أن الحل السياسي للقضية الفلسطينية يبدأ وينتهي بحق تقرير المصير للفلسطينيين، وإقامتهم دولتهم المستقلة على حدود 5 يونيو (حزيران) 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، التي تضم قطاع غزة، والضفة الغربية.

روسيا والصين

يشكل الطلب الروسي والصيني ضرورة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وقطاع غزة تأكيدًا جديدًا من بيجين وموسكو على تمسك روسيا والصين “بحل الدولتين”، فلطالما كانت روسيا والصين في الخندق الذي يدعو إلى الحل السياسي في فلسطين من خلال تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم المستقلة؛ ولهذا أيدت الصين وروسيا كل القرارات في مجلس الأمن التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، وتنظر موسكو وبيجين إلى أهمية الوحدة والتكامل بين قطاع غزة والضفة الغربية باعتبارهما أراضي محتلة يجب أن تعود إلى أصحابها الفلسطينيين. ويؤكد تحليل المواقف الصينية والروسية أن كلًا من بيجين وموسكو ترفض أي احتلال إسرائيلي لأي جزء من قطاع غزة، بما فيه محور “فيلادلفيا”.

المؤكد أن خطة إنشاء “منطقة عازلة” في قطاع غزة فكرة وخطة فاشلة، ليس فقط قياسًا على الأسباب السابقة؛ بل لأن العالم بات أكثر وعيًا وفهمًا للقضية الفلسطينية أكثر من أي وقت مضى، وأن حل هذه القضية سياسي، وليس أمنيًّا وعسكريًّا.