غزة تتفاوض بالنار

التفاوض-بالنار-في-غزة
التفاوض-بالنار-في-غزة

بقلم _أحمد الطناني

لم تراوح وتيرة العمليات القتالية في قطاع غزة مكانها في الأسابيع الأخيرة، بل تصاعد كلاً من عدوان الاحتلال وحركة جيشه في قطاع غزة، كما تصاعدت وتيرة وحجم ضربات المقاومة في محاور القتال، بالتوازي مع خطاب سياسي متصلب من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو وتماسك في خطاب المقاومة وشروطها.

في خلفية هذا التصاعد والتصلب في المواقف، تتحرك مكوكياً وفود التفاوض، كما المطابخ السياسية خلف الكواليس، للبحث عن صيغ صفقة يبحث فيها الاحتلال عن تخفيف أزمته الداخلية وتصاعد حراك أهالي الأسرى والضغط الدولي، في ما تبحث فيها المقاومة عن إيقاف العدوان وتدشين مسار لتبادل الأسرى وفتح أفق سياسي يضمن للشعب الفلسطيني حقوقه.

الضغط الأقصى ميدانياً

مشهد التصعيد الميداني والتحرك الكبير لجيش الاحتلال لاستكمال التقدّم في مناطق خانيونس وخصوصاً الجزء الغربي من المدينة ومحاصرة المخيّم، ومناورة آليات الاحتلال من جديد في شمال قطاع غزة والعودة للتعمق في بعض أحياء غرب غزة وشمالها، وسط تكثيف واضح للغارات الجوية، والتلويح المستمر بتوسيع العدوان ليشمل إعادة احتلال محور فيلادلفيا الفاصل بين قطاع غزة والأراضي المصرية في ضوء وجود أكثر من مليون ونصف نازح في محافظة رفح الأصغر جغرافياً في القطاع، يمثّل الضغط الأقصى في سلوك الاحتلال العملياتي على الأرض.

بالمقابل، كثّفت المقاومة من ضرباتها النوعية، وأبرزها عملية شرق مخيّم المغازي وسط القطاع، التي أدت إلى مقتل أكثر من 20 جندياً بتفجير مبنيين ودبابة على بعد 600 من الحدود، إضافة لنشاط متصاعد بشكل كبير للمقاومة في مناطق شمال قطاع غزة التي وقعت تحت العدوان منذ اليوم الأول للحرب، هذا النشاط شمل عودة ملحوظة لإطلاق رشقات مكثفة من الصواريخ من مناطق الشمال على مستوطنات نيتفوت واسديروت وعسقلان ومواقع ومستوطنات الغلاف، حيث تُرسل المقاومة رسائل واضحة حول حجم فشل جيش الاحتلال في القضاء على بنيتها التحتية حتى في المناطق التي ترزح تحت الحصار والعدوان والتمشيط الميداني منذ أكثر من 4 أشهر.

ورقة الأسرى، العامل الأكثر حسماً

لا تزال الورقة الأقوى في يد المقاومة هي ورقة الأسرى، ويمثّل نجاحها في تأمين أكثر من 130 أسيراً طوال هذه الشهور من القتال والتعمق البري لجيش الاحتلال في أراضي القطاع، نجاح لافت ومهم، وعنوان فشل مستمر للجيش الذي استنزف بنك أهدافه دون الوصول لنتائج ملموسة، فلم ينجح في تحرير أي أسير بالقوة، ولم يفلح الضغط العسكري على إحداث هبوط في سقف المقاومة مقابل إطلاق سراح الأسرى.

حسناً فعلت المقاومة بإصرارها على إغلاق باب الصفقات الجزئية للأسرى مقابل هدن مؤقتة، وكان هذا التقدير هو الأمثل في وضع محدد يُجبر الاحتلال على الخوض في مسار لإنهاء الحرب والعدوان إن كان معنياً بعودة أسراه على قيد الحياة، وأصبحت المعادلة محكومة بحجم وتأثير حراك أهالي الأسرى في شوارع “تل أبيب” والقدس وضغطهم على مجلس الحرب.

مارست المقاومة حرباً نفسية مميزة لاستثمار هذا الضغط، وشكّلت مصداقية إعلاناتها حول مصير الأسرى عاملاً مهماً في تحريك الشارع الإسرائيلي وتوسيع ضغطهم على الحكومة

حوادث قتل الأسرى بنيران جيش الاحتلال، وأبرزها الحادثة الشهيرة بمقتل 3 أسرى بنيران جيش الاحتلال في الشجاعية بسبب تشخيص خاطئ، ومقتل أسرى آخرين نتيجة استخدام الغاز في قصف أنفاق المقاومة بشمال غزة، ومقتل أسرى آخرين أثناء إفشال محاولة تحريرهم بعمليات كوماندوز، إضافة إلى من قُتلوا نتيجة الغارات المستمرة على القطاع، كلها حوادث شكّلت مادة مهمة في تحفيز الأهالي للمزيد من الضغط لاستعادة أبنائهم، ووسّعت حالة التفاعل الشعبي مع حراكهم الضاغط من أجل الوصول لصفقة للأسرى بأسرع وقت تضمن عودة أبنائهم أحياء.

مارست المقاومة حرباً نفسية مميزة لاستثمار هذا الضغط، وشكّلت مصداقية إعلاناتها حول مصير الأسرى إلى جانب الرسائل المصورة المستمرة من أسرى على قيد الحياة يدعون أهلهم لنشاط جاد من أجل إعادتهم على قيد الحياة (قُتل البعض منهم في ما بعد بنيران جيش الاحتلال)، عاملاً مهماً في تحريك الشارع الإسرائيلي وتوسيع ضغطهم، وهو ما فرض هذا العنوان بقوة على أجندة مجلس الحرب الذي أهمل في السابق أولوية هذا الملف ومسار التبادل الواسع ضمن أفق أوسع لنهاية الحرب.

قمة باريس ومحددات التبادل

انعقدت قمة باريس على المستوى الأول لمسؤولي الاستخبارات والأمن بمشاركة من رئيس الموساد ديدي برنيع، ورئيس الشاباك رونين بار مع رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ورئيس وزراء قطر ووزير المخابرات المصرية، لبحث ملف الأسرى وأفق التبادل.

مُخرجات القمة لم تُعلن بشكل واضح، إلا إنّ إعلان رئيس وزراء الاحتلال شمل الإشارة إلى أنّ المحادثات كانت بنّاءة رغم وجود فجوات، وأنّ اللقاءات ستسمر للتغلب على الفجوات، ما يعطي إشارة واضحة حول كون القمة جزءاً من خطوات كبيرة تؤخذ لإنجاز هذا الملف، وسط حديث أمريكي متكرر عن وجود مسار جدي لإنهاء ملف الأسرى.

المعضلة باتت مرتبطة بكون هذا المسار يتضمن هدوءاً مؤقتاً كما يريد الاحتلال، أم مساراً لانهاء الحرب وإيقاف العدوان كما تريد المقاومة

القمة المنعقدة على هذا المستوى، ترافقت مع حديث متزايد في الإعلام العبري والأمريكي رسم محددات واضحة للتبادل، وأنّ كلاً من المقاومة والاحتلال قد وصلا إلى صيغ يمكن البناء عليها في مراحل وأثمان الصفقة القادمة، في ما بات واضحاً أنّ المعضلة لم تعد حول حجم وعدد الأسرى ونوعيتهم (قادة ومسؤولين عن عمليات كبرى وأصحاب محكوميات كبيرة ومؤبدات)، بل المعضلة باتت مرتبطة بكون هذا المسار يتضمن هدوءاً مؤقتاً كما يريد الاحتلال، أم مساراً لانهاء الحرب وإيقاف العدوان كما تريد المقاومة.

التبادل ومستقبل الحرب

يبحث نتنياهو عن صيغ لصفقات جزئية يطلق فيها سراح أسراه لدى المقاومة، ويحصل على فترات هدوء مؤقتة، يحصد عبرها مجموعة من الإنجازات تتمثّل أبرزها في:

أولا، تخفيف حجم الضغط الداخلي والحراك المتصاعد لأهالي الأسرى، وتأثيرهم على السياسيين وحتى أعضاء مجلس الحرب خصوصاً خصوم الائتلاف الحاكم بيني غانتس وغادي أيزنكوت، إضافة لزعيم المعارضة يائير لابيد إذ بات الثلاثة يدعون علناً لإنجاز صفقة للأسرى أياً كان الثمن.

ثانيا، ستمثّل هذه الصفقات والهدوء فرصة لتهدئة الرأي العام الدولي الذي بات يضج باستمرار الحرب والمجازر في قطاع غزة، خصوصاً بعد مجريات محكمة العدل الدولية واتهام “إسرائيل” بممارسة الإبادة الجماعية في القطاع، والتي بالرغم من أنّها لم تحكم بضرورة إيقاف الحرب ضمن الإجراءات المؤقتة، إلا أنّها وضعت “إسرائيل” في قفص الاتهام وفتحت الباب أمام تقديم جنوب إفريقيا ملفاً كاملاً حول جرائم الاحتلال في القطاع، مما عكس نفسه على صورة الاحتلال التي حاول تبييضها كثيرا، إضافة لكون المحكمة قد أعطت حكومة الاحتلال مهلة شهر لتقديم تقرير حول ما قُدّم بالمحكمة وتدابيرها المضادة، وبالتالي سيمثّل شهر من الهدوء فرصة ذهبية للاحتلال لتجاوز هذه العاصفة.

ترفض المقاومة كل العروض الجزئية لصفقات بدون تعهد وضمانات بأن يكون هذا المسار هو مسار لإنهاء العدوان والحرب وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، وهي النقطة التي ما زالت عالقة حتى الآن

ثالثا، تلبية للحاجة الأمريكية لفسحة من الهدوء وتخفيض حضور غزة في الرأي العام الأمريكي وتراجع الحراك الداعي لإيقاف الحرب على القطاع، والذي بات يلاحق الرئيس الأمريكي جو بايدن في جولاته الانتخابية ولقاءات جمع التبرعات لحملته القادمة.

رابعا، فرصة لترتيب الأوراق في الإقليم ومنح مساحة للجهود الدبلوماسية والحراك الأمريكي في تخفيض التصعيد الذي أصبح يتوسع من قوى محور المقاومة، خصوصاً مع تصاعد نوعية ووتيرة الضربات في كل من جنوب لبنان وسوريا والعراق واليمن.

على الجانب الآخر، ترى المقاومة في كل السابق عوامل ضغط حقيقية، من المهم استثمار ورقة الأسرى وعامل الزمن من أجل زيادة مفاعليها للوصول إلى إنهاء كامل للحرب والعدوان على القطاع، وهذا ما يعكسه تمسكها برفض كل العروض الجزئية لصفقات بدون تعهد وضمانات بأن يكون هذا المسار هو مسار لإنهاء العدوان والحرب وانسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة، وهي النقطة التي ما زالت عالقة حتى الآن.

وبناء عليه، وضمن عملية التفاوض الجارية، يمارس الاحتلال ضغطه الأقصى ميدانياً ويزيد من وتيرة عملياته العسكرية على الأرض ضمن مساعيه المستمرة أولاً للبحث عن صورة نصر، أو ملامسة لحظة انهيار بحث عنها منذ بداية الحرب للمقاومة، وثانياً من أجل الدفع لخفض المقاومة لسقفها، وتحفيزها للقبول بصيغ الهدوء الجزئي دون انسحاب من قطاع غزة أو إيقاف كامل للعدوان.

المقاومة من طرفها تزيد من وتيرة ضرباتها النوعية، وترسل إشارات ميدانية واضحة بأنّ قدراتها ما زالت بعيدة كل البعد عن التخلخل أو التفكك، وأنّ منظومات القيادة والسيطرة تعمل بشكل نوعي وتدير عملياتها على كامل أراضي القطاع من شماله إلى جنوبه، وقادرة على إدارة عمليات إطلاق النيران والصواريخ من أي بقعة في القطاع، إضافة لإدارة العمليات الدفاعية واستنزاف الاحتلال وجيشه في كل محاور القتال، لتعطي إشارات واضحة حول فشل العدوان في انتزاع معادلات انهيار أو تنازل، وعدم وجود أفق قريب لتفكك قدراتها.

تجري عملية التفاوض، في غرف الوسطاء، وفي الميدان، وتحمل في طياتها أفقاً قريباً لصفقة قد تتضمن مساراً جدياً لإنهاء الحرب، وفي خضم هذا التفاوض سيشهد الميدان تصعيداً غير مسبوق في الأيام القادمة يعكس حجم التنازل الذي يحاول الاحتلال تقليصه قدر الإمكان عبر الإيغال في الدمار والقتل لخفض سقف المقاومة، وسط حالة ملتبسة وضع فيها نتنياهو مستقبله السياسي كمحدد يقف حاجزاً أمام إنهاء الحرب خصوصاً مع الفشل الذي لا أفق له بأن يتغير في إمكانية تحقيق الأهداف الحالمة التي وضعها في بداية الحرب بالقضاء على المقاومة وتفكيكها.

*كاتب فلسطيني