إطار باريس: معركة التفاوض والضغوط متعددة المستويات

دبابات في غزة
دبابات في غزة

بقلم أحمد الطناني/ حراك كبير شهدته الجهود للوصول لملامح المحددات الرئيسية لاتفاق هدنة/ هدن مُختلف على الهدف منها، إذ أنّ منظور الاحتلال والولايات المتحدة ينطلق من البحث عن فترة هدوء مؤقتة لإطلاق سراح الأسرى، ومن منظور المقاومة تدشين مسار لوقف كامل لإطلاق النار وإيقاف حرب الإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

إطار الصفقة الذي مثّل مخرج القمة الاستخباراتية في باريس بمشاركة كل من رؤساء أجهزة الشاباك والموساد، والمخابرات الأمريكية، والمخابرات المصرية، ورئيس وزراء قطر، لم يحمل سوى عموميات فضفاضة لشكل أي صفقة قادمة بهدف إطلاق سراح أسرى الاحتلال لدى المقاومة، في وصفة صيغت لتُرفض من قِبل مقاومة صمدت في قتال أسطوري لأكثر من 4 أشهر دون أن يتمكن عدوها من نيل أي صورة نصر سوى القتل والدمار.

أخذت المقاومة وقتها للرد على الإطار المُقدّم، فلم تسارع في الرفض، ولم تتلقف العرض مثل الغريق الذي يبحث عن قشة، بل أخضعت المُقدّم لدراسة واسعة وتشاور مع فصائل المقاومة، دون التأثر بحجم الضغط الذي مُورس عليها، بشكل مباشر، أو عبر أدوات أخرى شملت ماكينات إعلامية وصناعة للرأي العام لخلق مناخ لدى حاضنة المقاومة يوحي وكأنّ الصفقة باتت قاب قوسين أو أدنى.

أدركت المقاومة الفلسطينية منذ اللحظة الأولى التي صيغ فيها المقترح، وقبول الاحتلال به، أنّه ينطلق من الحرص على تحميل المقاومة مسؤولية إفشال الجهود

بالرغم من أنّ الإطار المُقدّم كان عاماً بدرجة لا يمكن القبول بها، إلا أنّ المقاومة الفلسطينية أدركت منذ اللحظة الأولى التي صيغ فيها المقترح، وقبول الاحتلال به، أنّه ينطلق من الحرص على تحميل المقاومة مسؤولية إفشال الجهود، وتأمين مخرج لهروب حكومة الاحتلال من ضغطين: الأول، الضغط الداخلي لأهالي الأسرى والمعارضة وشركاء مجلس الحرب، والثاني، الضغط الدولي والرغبة الأمريكية بالهدوء.

الرد ودلالاته

صاغت المقاومة ردها على قاعدة “نقبل ولكن” واستثمرت جيداً غياب التفاصيل عن الإطار المُقدّم وحوّلت ردها إلى وثيقة تضع محددات لعناوين تفاوض لا يمكن تجاوزها، فأرفقت المقاومة في ردها تفاصيل محددة حول مطالبها، لم تغفل فيها لا الحاجة الآنية لمدخل الاتفاق والمتمثّل بإيقاف الحرب والوقف الشامل لإطلاق النار وسحب جيش الاحتلال من أراضي قطاع غزة، وحاجات الإعمار واحتياجات الإغاثة وتأمين المسكن وإعادة الإعمار، وانتهاء بالأفق الاستراتيجي للمعركة المتمثّل بالمسار السياسي والتصدي لمخططات تهويد المسجد الأقصى، إلى جانب الصفقة الكبرى للأسرى.

يمكن تلخيص أهم دلالات رد المقاومة بالتالي:

المشاورات الموسعة مع الفصائل والمستويات القيادية داخل القطاع وخارجه، تعكس حرص حركة حماس على بلورة رؤية تعكس حالة الإجماع الوطني على اعتبار أنّ المعركة هي معركة الشعب الفلسطيني وليست معركة حركة حماس وحدها.

التروّي في الرد وأخذ الوقت الكافي لصياغة رد شامل لا يعكس التأثر بالضغط الذي مارسه الاحتلال حتى أقصاه ميدانيا، في ما مارسته الولايات المتحدة والوسطاء سياسيا.

الرؤية الشاملة والتفصيلية لمتطلبات الإعمار والإغاثة تعكس إدراك واقعي لحجم الأزمة الإنسانية في القطاع ومتطلبات الخروج منه.

تضمين الرد بنداً خاصاً بالمسجد الأقصى وأوضاع الأسرى يؤكد أنّ المقاومة ترفض أن تحصر الاتفاق بقطاع غزة فقط.

اشتراط إطلاق سراح 500 أسير تحدد المقاومة أسماءهم، من القادة وأصحاب المحكوميات الكبيرة في المرحلة الثانية من التبادل (أي قبل الوصول لمرحلة صفقة المجندين) يعكس رفع كلفة المراحل لتجنب غدر الاحتلال وإخراج المقاومة بنتيجة صفرية في منتصف مرحلة التبادل، ويؤمن للمقاومة زخماً كبيراً يشكّله خروج قادة وازنين من السجن.

الرد التفصيلي للمقاومة نقل النقاش من نقاش الخطوط العامة، إلى نقاش التفاصيل مبكرا، ووضع المفاوضات على الطريق الحقيقي للنقاش الجدي لصفقة فعلية، ومغادرة البحث عن مخارج للاستهلاك الإعلامي أو السياسي.

إدراج روسيا والأمم المتحدة كضامنين للاتفاق يعكس البحث عن التحرر من السطوة الأمريكية المشارِكة في الحرب على القطاع، واستثمار التغير في النظام العالمي والتأثير الروسي المتصاعد، والاستثمار الأمثل للموقف الإيجابي للأمين العام للأمم المتحدة تجاه وقف الحرب على القطاع.

التمسك بمسار واضح لإنهاء الحرب وعدم منح الاحتلال صفقات جزئية يحرم الاحتلال من إمكانية تجريد المقاومة من ورقتها الاستراتيجية المرتبطة بملف الأسرى، والاستثمار الأمثل لضغط أهالي الأسرى على مجلس الحرب من أجل الوصول لصفقة.

صياغة الرد بهذا الشكل فوّت الفرصة على الاحتلال والولايات المتحدة لتحميل حركة حماس المسؤولية عن إفشال الجهود ورفضها الخوض في مسار هادئ وإطلاق سراح الأسرى.

نتنياهو لا يبحث عن مخرج للحرب، بل يبحث عن وسيلة لتخفيف الضغط من أجل الاستمرار في حرب لم يعد هدفها القضاء على المقاومة، بل البحث عن مستقبل سياسي له

رد المقاومة وتمسكها بأنّ المدخل لأي اتفاق هو الوقف الكامل والشامل لإطلاق النار وانسحاب جيش الاحتلال من أراضي قطاع غزة، فتح جدلاً مهماً سيسهم في رسم ملامح أي نقاش قادم للصفقة المنظورة، ففي الوقت الذي سارع فيه نتنياهو إلى تقديم خطاب هجومي/ إجرامي أكد فيه على الاستمرار بالحرب والبحث عن “انتصار كامل” والقضاء على المقاومة، وتمسّكه المسبق بأنّ أي سقف للتبادل يجب أن يكون وفق محددات الهدنة السابقة (أسير بثلاثة)، إلا أنّ الولايات المتحدة التي تزامن رد المقاومة مع وصول وزير خارجيتها للمنطقة، وبالرغم من تبنّيها للموقف الإسرائيلي، إلا أنّها ترى أنّ رد حركة حماس يمكن البناء عليه.

تعاطي قادة الاحتلال كان متوقعا، فنتنياهو لا يبحث عن مخرج للحرب، بل يبحث عن وسيلة لتخفيف الضغط من أجل الاستمرار في حرب لم يعد هدفها القضاء على المقاومة، بل البحث عن مستقبل سياسي له، وضمان أطول مدة يبقى فيها في رئاسة الوزراء إلى أن يجد مهرباً من ارتدادات “طوفان الأقصى” على مستقبله كرئيس وزراء، في ما ينشغل الجيش في ترميم صورته والبحث عن استعادة لمفهومي الردع وجيش الشعب الذي نسفته عملية السابع من أكتوبر.

المستقبل السياسي لنتنياهو وبايدن

يعي نتنياهو أنّ أية صفقة للأسرى تتضمن وقفاً لإطلاق النار، ستكون رصاصة الرحمة على ائتلافه الحكومي، ففي الوقت الذي يتهرب فيه من المحاسبة وتحمّل المسؤولية، فإنّ تماسك ائتلافه الحكومي اليميني يمثّل الضمانة الرئيسية لتجنب معركة انتخابات في وقت انهارت فيه كل أسهمه وأسهم حزب الليكود الانتخابية، وبالتالي، فإنّ الالتزام بالسقف المرتفع لشركائه من قادة اليمين والاستمرار بالحرب يمثّلان طوق النجاة له، وهو ما يعكسه التمسك بخطاب تصعيدي في كل مؤتمر صحفي، بينما خلف الكواليس لا يغلق نتنياهو باب التفاوض ويديره بعيداً عن مجلس الوزراء المُصغر “الكابينت” ومجلس الحرب.

إبقاء باب التفاوض مفتوحاً يحمل في طياته تحفيزاً للولايات المتحدة لصياغة شبكة أمان سياسي لنتنياهو عبر حلفائها في الكيان “لابيد” و”غانتس”

يدرك نتنياهو أنّه لا يمكن استمرار الحرب إلى الأبد، وأنّ لحظة الحقيقة ستحين حتماً بكون الأهداف التي رفعها لن تتحقق، وأنّ المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة متماسكة وبنيتها التحتية مُعقدة إلى درجة فاقت التقديرات والتوقعات، وما يعكسه الميدان يؤكد أنّ “صورة النصر” تبتعد أكثر وأكثر مع إفلاس بنك الأهداف للشاباك والجيش دون نتائج ملموسة، في ما لا تظهر أية ملامح لاحتمالات الانهيار على المقاومة، وبالتالي، فإنّ إبقاء باب التفاوض مفتوحاً يحمل في طياته تحفيزاً للولايات المتحدة لصياغة شبكة أمان سياسي لنتنياهو عبر حلفائها في الكيان “لابيد” و”غانتس”، ودفعهم إلى صياغة ائتلاف حكومي جديد ينهي الحرب ويذهب إلى صفقة شاملة ويُخرج قادة الصهيونية الدينية وعوتسما يهوديت من الحكومة، ويضمن لنتنياهو موقعه في رئاسة الوزراء حتى نهاية دورة الكنيست الحالية، والتهرب من استحقاقات المسؤولية التي يسعى إلى حصرها بالمستويات العسكرية والأمنية في الكيان.

بالرغم أنّه من المبكر جداً الحديث عن صفقة قريبة، إلا أنّ العامل الحاسم في تقصير المدة الفاصلة للوصول لوقف لإطلاق النار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى حاجة الولايات المتحدة لإنهاء هذه الحرب، إذ أنّ تعاظم التحديات في وجه إدارة بايدن نتيجة الحرب التي تحوّلت إلى عامل من عوامل استنزاف الإدارة المأزومة للبيت الأبيض وهي تدخل موسم الانتخابات بأسوأ التقييمات في استطلاعات الرأي وملاحقة مؤيدي إيقاف الحرب للرئيس الأمريكي بايدن في كل محافل حشد الأصوات والتبرعات للانتخابات، والتلويح من الجاليات العربية والإسلامية وأنصار التيار التقدمي في الحزب الديمقراطي بالامتناع عن التصويت في الانتخابات رداً على شراكة إدارة بايدن في الحرب على غزة، مضافاً إلى كل هذا التطورات الميدانية المتصاعدة في الشرق الأوسط واستنزاف الجيش الأمريكي في ضربات بالبر والبحر والتهديد المتنامي للمصالح الأمريكية ارتباطاً بحرب أصبح جلياً أنّ أهدافها غير واقعية وبعيدة عن التحقّق، في ما ستشكّل ارتداداتها عاصفة تتنامى كلما طال أمد الحرب وتوسَّع الإجرام الصهيوني.

سيحاول الاحتلال تصعيد ضغطه على المقاومة ميدانياً وهذا ما يفسر التهديدات الواضحة بنقل المعركة إلى رفح، المحافظة الأصغر في القطاع والتي باتت الأكثر كثافة مع موجات النزوح

استمرار الضغط ميدانيا، وتصاعد الحراك السياسي

سيحاول الاحتلال تصعيد ضغطه على المقاومة ميدانياً وهذا ما يفسر التهديدات الواضحة بنقل المعركة إلى رفح، المحافظة الأصغر في القطاع والتي باتت الأكثر كثافة مع موجات النزوح التي حوّلت محافظة سكانها لا يتجاوزون الـ200 ألف، إلى مستقبل لأكثر من مليون نازح في أوضاع إنسانية مأساوية، وسيشكّل العدوان عليها والتقدّم البري باتجاهها مجزرة متحركة لكل متر من أمتار الاستهداف داخلها، إضافة لكونها البوابة الوحيدة للقطاع على العالم عبر معبر رفح، وبالتالي، فإنّ العدوان عليها سيشكّل ذروة الضغط من أجل انتزاع تنازلات جوهرية من المقاومة التي تماسكت طوال الأشهر الأربعة من حرب الإبادة على القطاع.

من جانب آخر، سيمثّل شهر رمضان وحساسيته لدى جمهور المسلمين عاملاً مهماً في الضغط على الولايات المتحدة التي باتت في عين العاصفة من أجل الضغط على نتنياهو لتقديم موقف أكثر ليونة والتعاطي مع الجهود المستمرة للوصول لاتفاق، وفي ذات الإطار تأتي جهود الولايات المتحدة مع السعودية وحلفائها في المنطقة لصياغة سيناريوهات اليوم التالي للحرب وتحديث السلطة الفلسطينية لتهيئتها للعب دور، وحتى البحث عن إعادة إحياء ورقة التطبيع بين السعودية و”إسرائيل”، لتشمل رزمة تضمن لـ”إسرائيل” مكاسب متعددة وفرصة لتصدير انتصارات تُخرج نتنياهو من مأزق “طوفان الأقصى”.