المفاوضات.. نموذجان متضادان! بقلم: ناجى صادق شراب

المفاوضات.. نموذجان متضادان! بقلم: ناجى صادق شراب
المفاوضات.. نموذجان متضادان! بقلم: ناجى صادق شراب

استهل هذاالمقال بعبارة للفيلسوف الانكليزي هوبز أحد أبرز مؤسسي نظرية القوة في العلاقات الدولية والتي يقول فيها : العهود والمواثيق التي لا تظللها السيوف ليست ألا كلمات لا ضمانة لها «لحماية الإنسان». هذه العبارة تنطبق الى حد كبير على كل الإتفاقات التي وقعت بين السلطة الفلسطينية واسرائيل ، والتي لم يبق منها الا الكلمات أو الحبر الذي كتبت به ، ولعل السبب في ذلك فقدان لعناصر القوة المتكافئة القادرة على ضمان تنفيذها والألتزام بها على أرض الواقع ، فالقوة الاسرائيلية حالت دون التقيد بها ، والضعف الفلسطيني أيضا حال دون ذلك . وخضوع هذه الأتفاقات لمنطق القوة من ناحية ، وفقدان عنصر التكافؤ في هذه القوة هو الذي يفسر لنا الى حد كبير أحد اهم اسباب فشل المفاوضات حتى الآن .

لقد إعتمدت المفاوضات الفلسطينية الاسرائيلية منذ البداية على النظريتين الرئيسيتين في العلاقات بين الدول وهما: نظرية القوة أو الواقعية، والنظرية المثالية أو السلامية .

اسرائيل بما تمثله من نموذج قوة ، ومن رؤيتها الأمنية المطلقة، ومن تمسكها بنظرية موازين القوة التقليدية التي تقوم على التفوق الاسرائيلي على ما دونه من دول المنطقة ، جسدت وتمسكت بنظرية القوة، وهذه النظرية تقوم على أعتماد الدول على قوتها الذاتية في تحقيق أمنها، ولا تعطي اهتماما كثيرا بمبادئ وقواعد الشرعية الدولية ، وتعتمد على المؤسسة الامنية فيها ، وحيث أن اسرائيل نموذج لدولة القوة ، لأنها قامت أساسا على عنصر القوة ، فهي تعتمد أساسا على قوتها العسكرية الذاتية ، وتربط أي اتفاق توقعه بهذه القوة ، والأولوية هنا لأمنها وقوتها ، بمعنى إذا رأت أن هناك تعارضا بين هذه الإتفاقات وبين اعتبارات الأمن والقوة ، تعطي الأولوية لأمنها ، وخير مثال على ذلك كل الاتفاقات التي وقعتها مع السلطة الفلسطينية التي لم تلتزم بها ، فلقد أستمرت في مصادرة الاراضي الفلسطينية وتهويد القدس وبناء الاستيطان في الاراضي الفلسطينية وهي الأرض التي يفترض أن تقوم عليها الدولة الفلسطينية، على الرغم من معرفتها مسبقا أن كل هذه السياسات تتعارض مع إستحقاقات الاتفاقات التفاوضية الموقعة ، وبقيت اسرائيل تمارس سياسة الإحتلال ، وتقليص دور السلطة الفلسطينية وأضعافها ، وتدمير البنية التحتية لأمكانية قيام الدولة الفلسطينية ، وحتى ورقة الاسرى تستغلها بطريقة تتعارض من كسر فجوة عدم الثقة .

هذه النظرية هي التي تحكم السلوك السياسي الاسرائيلي في التعامل مع المفاوض الفلسطيني ، الذي تعامل معه بطريقة فوقية ، أي النظر الى المفاوض الفلسطيني وكأنه مجرد من أي حقوق أو أي قدرة على التفاوض، أي على المفاوض الفلسطيني أن يستمع ويستجيب، لا يملك القدرة على المبادرة أو طرح أي أفكار، واسرائيل من منظور القوة التي تملكها تطرح الخرائط التفاوضية ، وتطرح ما تريد ، وتحدد للمفاوض الفلسطيني حدود مطالبه التي قد لا تخرج عن الحاجات الأساسية في الحياة ، حتى موضوع الدولة الفلسطينية اسرائيل هي من يحدد مواصفات هذه الدولة وشروط قيامها بما لا يتعارض مع أمنها وقوتها .

ولقد ساعد اسرائيل في هذا السلوك ارتباطها بدولة القوة على المستوى العالمي ، وهي الولايات المتحدة التي تربطها علاقات تحالف استراتيجي مع اسرائيل ، وهذا التحالف بين مستوى القوة الاسرائيلية ومستوى القوة على المستوى العالمي هو الذي يفسر لنا الرفض الاسرائيلي لأي التزامات تفرضها عملية مفاوضات متوازنه وتقوم على مبدأ ان هناك شعب فلسطيني محتل وله حقوق مشروعة في قيام دولته .

وقد انعكس هذا التحالف في القوة على تجاهل أو رفض لكل قرارات الشرعية الدولية ، وعدم الألتزام بأي مرجعية دولية غير المرجعية التي تحددها قوة اسرائيل .

وبالمقابل هناك النظرية الأخرى التي تمسك بها الفلسطينيون وهي النظرية السلامية أو المثالية في العلاقات الدولية ، والتمسك بالشرعية الدولية دون توفير عناصر القوة لها ولا خلاف على أهمية هذه النظرية وقدرتها على كسب التاييد والتعاطف الدولي ، وحتى في إستصدار القرارات الدولية الداعمة للحقوق الفلسطينية وخصوصا حقه في تقرير مصيره وبناء دولته ، وفي بطلان كل السياسيات والقرارات التي اتخذتها اسرائيل على الأرض الفلسطينية والتي ترفض أي تغيير في معالم هذه الأرض ، لكن الذي تفتقر اليه هذه القرارات القوة الدولية القادرة على تطبيقها والزام اسرائيل بها ، ولعل نظرية القوة هي التي قد وقفت دون صدور أي قرار له صفة الألزام بسبب الفيتو الاميركي الذي حول كل قرارات الشرعية الدولية بشأن القضية الفلسطينية الى مجرد توصيات غير ملزمة ، وهو ما قد شجع اسرائيل على إنتهاك وعدم التقيد بأي منها ، وشجعها على الإستمرار في سياستها الاحتلالية .

وفي الوقت ذاته فقد ساهم الضعف الفلسطيني والانقسام الفلسطيني ، وفي عدم التكامل ما بين خياري المفاوضات والمقاومة الى ضعف واضح في الموقف الفلسطيني، وعدم قدرته على المساومة ،أضف الى ذلك حالة التراجع في القضية الفلسطينية في أعقاب التحولات العربية ، وتراجعها على المستوى الدولي لبروز أولويات أخرى كالملف النووي الايراني ، وتجدد قضية الإرهاب ، وكلنا يعلم أن المفاوضات هي في النهاية ممارسة للقوة ، وافتقار هذه المفاوضات الى معادلة القوة كان سبب واضحا في فشلها . ومما ساعد على هذا الضعف أيضا ضعف الموقف العربي وعدم قدرته على موازنة القوة الاميركية . نحن إذن أمام نموذج لمفاوضات القوة والضعف ، وحتى تستقيم الأمور لا بد من مراجعة أسس هذه العلاقة ، وتحسين الموقف التفاوضي الفلسطيني ، وتحسين الموقف العربي حتى يمكن الوصول الى درجة أكبر من القدرة على المساومة ومواجهة الضغوطات المفروضة على المفاوض الفلسطيني .

وهذه المعادلة مهمة من أكثر من زاوية ، فمن ناحية تلزم اسرائيل بالالتزام بأي عملية تفاوضية ، ومن ناحية أخرى تقلل من مستوى التنازل الذي يبديه المفاوض الفلسطيني، ومن ناحية ثالثة تقود الى حد كبير الى مفاوضات اكثر توازنا، وتعيد للشرعية الدولية اعتبارها ، فشرعية وقرارات دولية بدون سيوف تظللها على حد تعبير هوبز ليست الا مجرد كلمات ، وقد لا تساوى الحبر المكتوبة به . هذا هو الدرس الأول من وراء فشل المفاوضات فقدان التوازن في عناصر القوة والتي ليس بالضرورة أن تكون عسكرية فقط .وأخيرا يجدر التذكير بهاتين النظريتين مهم والمفاوضات الفلسطينية عادت من جديد، ويبقى التساؤل ما الجديد الذي قد طرأ على بيئة المفاوضات ؟

وهل إستعاد الفلسطينيون قوتهم ، ونجحوا في تحسين مستوى الخلل في موازين القوة مع إسرائيل؟ الإجابة على هذه التساؤلات تفيد في القدرة على التنبؤ بالمفاوضات الحالية ، وإلى أين تتجه للفشل ام النجاح؟