مصر والمخاض العسير...بقلم: على جرادات

مصر والمخاض العسير...بقلم: على جرادات
مصر والمخاض العسير...بقلم: على جرادات

منذ وقع الارتداد على سياسة الاستقلال الوطني والتوجهات القومية التي اتسم بها العهد الناصري، ورغم الممانعة الشعبية لهذا الارتداد، جرى الزج بمصر لعقود في دور مرسوم، جوهره: أن تبقى رديفاً سياسياً ولوجستياً للسياسة الأمريكية في المنطقة، ما أفقدها موقعها المركزي عربياً، ودورها المحوري إقليمياً، وتأثيرها الفاعل في إفريقيا، خصوصاً، وفي دول منظومة “عدم الانحياز”، عموماً . بذلك صارت مهمة إخراج مصر من هذا الدور المرسوم استحقاقاً لا مفر من التصدي له، ولا مجال لفصله، تحدياً خارجياً، عن استحقاقات تلبية المطالب الشعبية الداخلية في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .

وبتفجر ثورة 25 يناير بوصفها قفزة نوعية مهدت لها انتفاضات شعبية عدة، أصبحت استعادة مصر لموقعها المركزي عربياً، ولدورها المحوري إقليمياً، مطلباً شعبياً مصرياً وعربياً عاماً، وإمكانية واقعية . لكن اختطاف جماعة “الإخوان” واحتكارها لسلطة ما بعد الموجة الأولى للثورة، أحبطت هذا المطلب المشروع والواقعي في آن . لذلك جاءت موجة ٣٠ حزيران للثورة أكثر وضوحاً في الربط بين مسألة الاستقلال الوطني بتوجهاته القومية وبين مسائل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية .

ذلك ببساطة لأن الشعب المصري وجد نفسه، ومطالبه الداخلية، في حالة تناقض موضوعي ليس مع سياسة سلطة “الإخوان” الاستحواذية الاقصائية داخلياً فقط، بل مع السياسة الخارجية الأمريكية الداعمة لسلطة “الإخوان” أيضاً بغرض تعميق السيطرة على المنطقة، خاصة أن دخول الشعب المصري على الخط في 30 حزيران جاء مشحوناً بشعور من الزهو لشعب نجح في اطلاق ثورة أطاحت - بسرعة قياسية - نظاماً سياسياً، واكتشف في خضمها مقدار ما عنده من طاقات هائلة مختزنة لا يليق بها التوقف في منتصف الطريق، سواء لجهة المطالب الداخلية، أو لجهة مطلب إخراج، مصر من دور اللاعب “الصغير” عربياً وإقليمياً، ما جعل استعادة مصر لدورها ممراً إجبارياً، وليس مجرد خيار في مسار ثورة 25 يناير وموجاتها المتتالية . أما لماذا؟

لقد وجدت الحوامل السياسية والاجتماعية الفعلية لثورة 25 يناير نفسها أمام تداخل التحديات الداخلية والخارجية للثورة، لدرجة أن يصبح التحدي الخارجي محركاً أساسياً من محركات خروج عشرات ملايين المصريين إلى الميادين في 30 حزيران . تجلى ذلك في ما ساد هذه الموجة من هتاف ضد الولايات المتحدة وتدخلاتها وابتزازاتها، وضد استكانة سياسة سلطة “الإخوان” أمام دول “صغيرة” وأخرى “كبيرة” تابعة للولايات المتحدة .

كان ذلك تعبيراً عن شعور وطني غاضب امتزج بشعور اليأس من قدرة سلطة “الإخوان” على إحداث تغيير يعتد به على المستوى الداخلي، ناهيك عن عدم تجرّئها على إجراء أي تعديل على معاهدة كامب ديفيد أو على ملاحقها الأمنية المذلة . وكان لافتاً في هذا السياق هتاف المصريين المحتشدين بعشرات الملايين في الميادين بحياة الجيش المصري وقائده العام الفريق أول عبد الفتاح السيسي بصورة تعيد للذاكرة تعلق الشعب المصري بزعيمه الراحل عبد الناصر، وبما تحقق في عهده من إنجازات وطنية وقومية واجتماعية كبيرة .

هنا تتبدى آفاق مستقبلية محتملة لسياسة خارجية مصرية تختلف عن سابقتها في عهديْ مبارك و”الإخوان”، خاصة أن “الإخوان” لم يكتفوا بمواصلة سياسة نظام مبارك الخارجية، بل أضافوا الهجوم على أعمدة ثابتة في السياسة الخارجية المصرية كما حددها الراحل عبد الناصر في كتاب “فلسفة الثورة”، وهي بالترتيب أعمدة: الدائرة العربية، معبراً عنها في إحياء مشروع الوحدة العربية، وفي دعم حركات الاستقلال والتحرر العربي، وفي الدفاع عن القضايا القومية للأمة، وأولاها قضية فلسطين، ثم الدائرة الإفريقية بحسبان النيل عنصراً أساسياً من عناصر الأمن القومي المصري، ثم الدائرة الإسلامية بحسبان الإسلام مكوناً أساسياً من مكونات الحضارة العربية .

شكلت نظرية الدوائر الثلاث هذه مقرونة بخيار مشروع “باندونغ”، عدم الانحياز، بحسبان ثورة 23 يوليو جزءاً من حركات التحرر الوطني في بلدان ما يسمى “العالم الثالث”، مدرسة راسخة في السياسة الخارجية المصرية، تعلمت فيها أجيال من الدبلوماسيين المصريين الذين لم ترق لهم الانحيازات الجديدة ل”سلطة الإخوان”، وما اتسمت به من “مذهبية” وفئوية ورعونة وانعدام خبرة، وغياب رؤية استراتيجية للتعامل مع قضايا الأمن القومي المصري، ناهيك عن ارتهانها لتحالفات سياسية إقليمية ودولية تخدم مصالح “الجماعة” وتضر بمصالح مصر الدولة والشعب والوطن، وتخالف منطق التاريخ المصري الذي كانت تهديداته الخارجية إما من الشمال الأوروبي ممثلة في الاحتلال الروماني واليوناني ثم حملة نابليون والاستعمار البريطاني، أو من الشرق ممثلة في تهديدات الفرس وغزوات الهكسوس والتتار والحملات الصليبية وصولاً إلى التهديد الاسرائيلي .

وكان هذا ما وعاه مبكراً، وتصرف على أساسه، كل من صلاح الدين الذي وحد مصر وسوريا قبل خوض معركة حطين الفاصلة مع الصليبيين، والظاهر بيبرس الذي استبق وصول التتار إلى مصر بالزحف لمواجهتهم في بلاد الشام في معركة عين جالوت الفاصلة، ومحمد علي الذي رأى المجال الحيوي لبناء دولة مصرية حديثة في بلاد الشام وفي الوصول إلى منابع النيل عبر ضم السودان إلى سلطته، وصولاً إلى عبد الناصر الذي وعى هذا التاريخ جيداً وبنى سياسته الخارجية على الدوائر الثلاث السالفة الذكر، فيما حالت أيديولوجية جماعة “الإخوان” وفئويتها دون قراءة هذا التاريخ قراءة موضوعية تستلهم دروسه ومعانيه، وأهمها: المشرق العربي جزء من الأمن القومي المصري، وعروبة مصر ليست مجرد بحث في الأصول، بل معطى موضوعي وناتج حالة تفاعل تاريخي طويل، وبها تحمي مصر نفسها وتقود أمتها العربية، ما يعني أن تركيز عبد الناصر على أولوية الدائرة العربية، دون إغفال الدائرتين الإفريقية والإسلامية، في بناء أعمدة السياسة الخارجية المصرية، لم يكن ناتج شعور قومي فقط، بل كان، ناتج وعي موضوعي للتاريخ ولمصادر الخطر على مصر الدولة واستقرارها وأمنها القومي أيضاً .

يصْدقُ ذلك أن مصر ضعفت عندما فكت نفسها عن المشروع القومي العام وكفت عن قيادته، وعن التأثير في الدائرة الإفريقية، بينما تعيش اليوم مخاضاً عسيراً لحسم يتداخل فيه الداخلي والخارجي من التحديات، وينطوي على صدامات محتملة مع قوى داخلية وإقليمية تتصدرها جماعة “الإخوان” وتركيا، وأخرى دولية تقودها الولايات المتحدة .

قوى تتناسى حقيقة أن الطوفان البشري الذي عم ميادين مصر في 30 حزيران ثم في 3 و26 تموز جعل الشعب المصري قادراً على فرض التوافق مع مطالبه على الجميع، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة التي لم تعد - بعد بزوغ أقطاب دولية أخرى- قادرة على فرض إرادتها كيفما وكلما وأينما شاءت، والتنظيم الدولي ل”الإخوان” الذي يعيش - بعد السقوط المدوي لسلطته في مصر - حالة متنامية وغير مسبوقة من العزل الشعبي .