مصر.. سيناريوهات واقعية-- بقلم: عصام الخفاجى

مصر.. سيناريوهات واقعية-- بقلم: عصام الخفاجى
مصر.. سيناريوهات واقعية-- بقلم: عصام الخفاجى

تقول المصادر العسكرية إن 29 مليون مصري نزلوا إلى الشوارع يوم 26 تموز تأييداً لدعوة الفريق عبدالفتاح السيسي الشعب إلى تفويضه لمكافحة الإرهاب. والشعب والإرهاب، كما نعلم مفردتان هلاميتان، وقد ندر أن قال حاكم إنه لا يستمد سلطته من الأولى، وكثر من استخدموا الثانية لتخويف العالم وشعوبهم من مغبة الثورة عليهم بوصفهم المتصدّين للإرهاب. أياً يكن عدد من شاركوا في مليونية التفويض أو انتفاضة 30 حزيران ، فقد أجمع المراقبون على أنهم يمثلون غالبية معارضة للحكم «الإخواني».

أسقط المصريون محمد مرسي عبر صناديق اقتراع أقيمت في الغالبية الساحقة من ميادين القاهرة والإسكندرية وباقي مدن مصر. نزل حشد تفاوت تقدير عدده بين 22 مليوناً و33 مليوناً مطالباً بإقصاء الرئيس. رقم يتجاوز بكثير عدد من لعبوا دوراً مماثلاً في إسقاط نظام مبارك وعدّه العالم والمصريون، استفتاء شعبياً أجمع على إزالته. وهو يمثل نسبة ضخمة من عدد السكان الذين في سن التصويت والبالغ 53 مليوناً. وإن صحّ الرقم المعطى للمشاركين، فهذا يعني أن نصف المصريين ممن تتجاوز أعمارهم أربع عشرة سنة نزلوا إلى الشوارع (من هنا فالرقم لا بد أن يكون شديد البعد عن واقع الحال، وإن كان لا يوهن الحديث عن غالبية مؤيدة للفريق).

سقط مرسي عبر عملية ديموقراطية لأن الانتفاضة ضد حكمه استجمعت زخمها بعد أن رفض إجراء انتخابات رئاسية مبكرة. إذاً، ليس ثمة خرق لقواعد اللعبة إذ نزل الناس إلى الشوارع مطالبين الرئيس بالتنحي حتى لو فاز في صناديق الاقتراع. في 1968، دعا شارل ديغول، المنتخب ديموقراطياً، إلى استفتاء شعبي يقرر بقاءه في الحكم إثر أحداث 1968 الطلابية، وتنحى عن الرئاسة بعد عجزه عن الحصول على النسبة المطلوبة.

كانت سنة واحدة فقط من حكم مرسي نذيراً بأن مصر ليست سائرة في طريق تحول ديموقراطي لأسباب سبقني كثيرون إلى تقديمها. ولكن، هل أعيدت مصر إلى هذا الطريق بعد الثلاثين من حزيران؟

أنعشت ثورة 25 يناير أملاً بإمكانية تحول مصر إلى الديموقراطية. أقول «إمكانية» لا حتمية، لا لأكرر فكرة عدم مساواة الديموقراطية مع صناديق الاقتراع فقط، بل لأن الثورة على الديكتاتورية لا تقود إلى إرساء نظام ديموقراطي بالضرورة. والمثال الصارخ في دلالته هنا هو الثورة الشعبية الإيرانية ضد ديكتاتورية الشاه ومآلها. جذر تلك الإمكانية، في رأيي، هو أن الشعب الذي احتضن المؤسسة العسكرية لأنها تعاملت بمهنية ولم تلعب دور أداة للنظام السياسي، مرجّحة بالتالي كفة الثوار، ظل في الآن ذاته متشكّكاً ومشكّكاً بنوايا قادة الحركة العسكريين الإنتقاليين حتى بعد أن أكدوا مراراً أنهم غير عازمين على التمسك بالحكم ولا طامحين إلى إدامة الوضع الانتقالي. ومن يدري؟ فلعل هذا التشكّك والضغط هو الذي قضى على أحلام بعض القادة بالتنصل من وعودهم.

زال التشكك بعد أن جاء رئيس مدني إلى السلطة، علّق نياشين وأوسمة على صدور جنرالاته وأحالهم على التقاعد. كانت المساهمة الكثيفة في عمليات الانتخاب البرلمانية والرئاسية واضحة الدلالة على أن الناس لم تعد تحتمل قيام زمرة أو جماعة بفرض نفسها حاكمة. لكن الناخبين، سواء كانوا نافرين من مجيء «الإخوان المسلمين» إلى الحكم، أو آملين في عودة الحياة إلى مسار بعيد عن الهياج، أو راغبين في تسليم الحكم إلى من خبروا العمل في أجهزة الدولة، صوتوا بكثافة للفريق المتقاعد أحمد شفيق، وبفارق ضئيل جاء حمدين صباحي حامل مشعل مبادئ حكم عبدالناصر العسكري. ولو جمعنا عدد من صوتوا لهذين المرشّحين لفاقوا بكثير عدد من صوّتوا لمرسي.

وطوال العام المنصرم، كانت أصوات، خافتة في البدء، تتعالى متمنية عودة العسكر إلى الحكم ولو موقتاً بتناسب طردي مع تعمق المشاكل المعيشية وتخبط السلطة «الإخوانية» وتزايد الإضطرابات الاجتماعية. وإذ عاد العسكريون اليوم إلى السلطة وسط ترحاب هائل، استبق الفريق السيسي احتمالات الاعتراض بأن عيّن رئيساً مدنياً وأعلن خريطة طريق جديدة يُفترض أن تعيد إطلاق العملية السياسية التي تعيد تسليم البلاد إلى سلطة مدنية منتخبة. ولكن، من قال إن غالبية المصريين ستؤيد عودة المدنيين إلى السلطة هذه المرة؟ أو لنعد صياغة السؤال المقلق: من قال إنهم يريدون حكماً يقيّد المؤسسة العسكرية ويخضعها للسلطة التنفيذية، وهو ما يشكل ركناً أساسياً من أركان الديموقراطية؟

على عكس 25 يناير، لم تكتف جمهرة الثائرين بالترحيب بتدخّل الجيش لمصلحة الغالبية. إنها تصفق لإجراءات يسهل أن تصبح مقدّمة للتسلط على قوى غير «الإخوان» متى شاء العسكر ذلك. فليس من العسير ملاحظة الروح الانتقامية التي يُجابه بها «الإخوان» بما يمكن أن يحيلهم من جديد إلى شهداء وأبطال في أعين جمهرتهم وجمهرة مضافة باحثة عن الأبطال. وليس من العسير كذلك ملاحظة أن قادة الجيش مستفيدون من المرارة التي يشعر بها الثوار تجاه «الإخوان» لكي يدوسوا على القانون وسط ترحيب الأخيرين. وبحدود اطلاعي، لم تحتجّ أي قوة مدنية فاعلة على اعتقال الرئيس المخلوع من دون توجيه تهم إليه إلا بعد قرابة شهر، من جانب سلطة كان أحد مبررات خلعها له استهانته بالقضاء.

لا تتكرر الأحداث التاريخية. لكن ثمة أوجه شبه غير قليلة بين ما يحدث في مصر اليوم وبين ما حدث فيها عام 1954، أي ما سُمي «أزمة مارس» وكان في حقيقته انقلاباً. مرسي ليس محمد نجيب قطعاً. فالأخير أزيح ووضع قيد الإقامة الإجبارية لأنه دعا، بعد عامين من الثورة، إلى عودة الجيش إلى ثكناته وإعادة الحياة البرلمانية. لم يتمسك الرجل بالسلطة ولا هو جيّش ميليشيات أو حرّض على تظاهرات تدعمه كما فعل مرسي. كان الضباط الذين عزلوه هم المتمسّكون بها. ومع هذا مرّ الحدث من دون أن يثير هياجاً شعبياً مؤيداً أو معارضاً، حتى عام 1956 حين تحول عبدالناصر إلى ما يشبه الإله بعد تأميمه قناة السويس ومجابهته العدوان الثلاثي. نسيت الجمهرة عند ذاك محمد نجيب، وربما نسيت أن ثمة رجلاً يحمل ذلك الاسم.

كأن ما يقوم به السيسي اليوم معادل، في أعين غالبية المصريين، لما قام به عبدالناصر عام 1956. بعد 1956، حصل الأخير، هو الآخر، على تفويض جماهيري مكّنه من شرعنة نظام الحزب الواحد وتشريع دستور مبني على أن من يعادي النظام خارج على الصف الوطني. أستخدم تعبير «الصف الوطني» بسبب الإنذار الموجّه لـ «الإخوان» بالعودة إلى ذلك الصف.

لا أدري ما إذا كان ما يلي يستدعي إطلاق تسمية سيناريو ثالث عليه، لأنه سيكون مكمّلاً لما سبقه: يتخلّى الفريق عن مهماته العسكرية ويعلن ترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية، أو أن تنزل الجماهير إلى الشوارع مطالبة بأن يتولّى الفريق منصب الرئاسة.

إن صحّ ما سبق، فسيرضخ الرئيس لـ «إرادة الشعب»، لكنه سيشترط أن يكون النظام رئاسياً يمنحه الحق بحل البرلمان ولا يمنح البرلمان حق عزله.