الخيط الرفيع بين النجاح والفشل بقلم : عاطف الغمري

الخيط الرفيع بين النجاح والفشل  بقلم : عاطف الغمري
الخيط الرفيع بين النجاح والفشل بقلم : عاطف الغمري

الخيط الرفيع بين النجاح والفشل

بقلم : عاطف الغمري

كثيراً ما يبرر بعض المتحدثين “التبريريين”، العجز عن الإدارة السلمية للتنمية الاقتصادية، بعبارات تتكرر في تصريحاتهم، حين يقولون نحن ورثنا تركة مثقلة بالمشكلات، وأوضاعاً متدهورة منذ سنوات . إن إقناع النفس بهذه المقولات البائسة يزيد العاجز عجزاً، ويحول بينه وبين النظر بعقل مستنير، تهيّئ له رؤية الحل متاحاً أمامه، لو أنه مد بصره إلى أبعد من موضع قدميه . فهناك شعوب كانت غارقة في الفقر، وليس لديها ما لدى مصر من موارد وإمكانات، وتعاني من مشكلات أكثر تعقيداً مما تتعرض له مصر، ومع ذلك حلت مشكلاتها، وقفزت إلى أعلى مستويات التقدم في سنوات قليلة، لأن المشكلة - كما يقول الخبراء - ليست في فقر الموارد، بل في فقر الإدارة .

كثير من الدراسات في العالم تناولت هذه القضية، منها على سبيل المثال دراسة مطولة شارك فيها خبراء ومتخصصون من جامعة نورثويسترن الأمريكية العام ،2008 ودراسة أخرى في جامعة شيكاغو، فضلاً عن مؤلفات لعلماء في الاقتصاد والفكر السياسي في أمريكا وأوروبا .

جميعها اتفقت على أن التنمية الاقتصادية، لا تنجح من دون قيادة سياسية قوية وواعية، فالنجاح لا يتحقق بمجرد الرغبة فيه، بل بقدرات هذه القيادة، التي يلزم تمتعها بخصائص محددة ومعروفة، من بينها:

- سلطة الحكم التي تملك في يدها زمام صناعة القرار، والتي تجمع بين القوة والحكمة معاً .

- الإلهام . . بمعنى قدرة الرئيس على أن يستحث العاملين معه من وزراء ومساعدين، على التفكير الخلاق، وهذا يتحقق عندما تكون لدى الرئيس نفسه رؤية واضحة، تتحول إلى محفز لعقول معاونيه .

- الإدارة الرشيدة . بمعنى حسن اختيار مساعديه طبقاً لعنصر الكفاءة، وليس بناء على التوافق الفكري أو الأيديولوجى، أو الحزبي .

هذه الدراسات قدّرت أن تلك المواصفات لا تكتمل إلا حين يؤمن الرئيس بالتنمية باعتبارها هدفاً وطنياً سامياً، ما يدفعه إلى الاستعانة بأهل الخبرة والتخصص، لصياغة استراتيجية للتنمية، تحول الرغبة والأفكار إلى واقع ملموس .

واتفقت هذه الدراسات على أن معيار الكفاءة للقيادة السياسية، يتمثل في إدارته للأزمات، وأن القيادة الواعية هي التي لا يبدو عليها، وكأنها فوجئت بالأزمة، بل تكون قد لمست مؤشراتها الأولى، حتى ولو كانت طفيفة . بحيث تضع أمامها احتمالات تحوّل هذه المؤشرات إلى واقع، حتى لو كان ذلك بنسبة ضئيلة، فتسارع في الحال إلى تكليف الخبراء المختصين، بوضع سياسات وإجراءات، تكون جاهزة فور وقوع هذا الاحتمال، للتعامل معه بكفاءة ومن دون تردد أو ارتباك .

أما إذا جاءت الأزمة مفاجأة كاملة، فلابد من أن يتعامل معها الرئيس وبسرعة، كقضية أمن قومي، لا تخص النظام وحده، بل تتعلق بالوطن بكامله . ولا يتردد عن إشراك مختلف القوى السياسية، وأصحاب الخبرة، في تكوين هيئة أو مجلس إدارة الأزمة . وهذه الطريقة تسهل حشد الأمة بأكملها من ورائه .

    وبالطبع سوف يكون لدى هؤلاء الخبراء ملفات بالأوضاع المشابهة التي واجهتها دول أخرى، وكيف تعاملت معها، إضافة إلى الاستناد إلى نصوص المعاهدات الدولية، والقانون الدولي، للاستفادة من بنودها، لمصلحة الدولة في مثل هذه الأزمات .

يعود بنا هذا المسار، إلى نقطة البداية، التي يطلقها التربويون للفشل، دون تقديم رؤى لعلاج المشكلات، وانجاز التقدم، وهناك نماذج عديدة، لدول عرفت كيف تدير شؤونها، وتحقق التنمية الاقتصادية، وتزيح من طريقها المشكلات .

هنا أختار نموذجاً بالغ الدلالة، لدولة كانت تعدّ منذ سنوات قليلة، أفقر دولة في قارة آسيا، ثم تبدل حالها إلى العكس تماماً، وهي منغوليا التي كانت تعتمد أساساً على المعونة السوفييتية، حين كانت إحدى دول الكتلة الشيوعية، وكان نشاطها الاقتصادي ينحصر في الرعي والزراعة، ولديها من المشكلات ما لا يعد ولا يحصى، وتعاني الفقر، والبطالة العالية، والتضخم الشديد، ونقص السلع الرئيسة، وإنعدام خطوط الكهرباء في معظم البلاد، وانتشار الطرق الترابية غير الممهدة . وهو ما زادت وطأته عقب توقف المعونة السوفييتية العام 1991 .

دولة بهذا الوضع لم تتباكَ على حالها، ولم تلقِ تبعة ما تعانيه على غيرها، لكنها عرفت طريق الخروج من المأزق، فوضعت استراتيجية كاملة متكاملة للتنمية الاقتصادية بمعناها العلمي والحديث . ومكنها من ذلك وجود قيادة سياسية فهمت ذلك واستوعبته وراعت أن تحتوي استراتيجية التنمية خططاً، وتوقيتاً زمنياً للتنفيذ، وحسن اختيار للقيادات المكلفة بلوغ الأهداف، وبدأت باستثمار مناجم كانت مهملة للنحاس والفحم والقصدير وبعض الذهب وأدارت عمليات استغلالها بطرق حديثة . واعتمدت على البحث العلمي في تصنيع معدات التنكولوجيا الحديثة وتصديرها، وتواصل نموها الاقتصادي بأكثر من المتوقع، لتصبح واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم .

إن مواقع الثراء المبشرة بالرخاء في مصر، كثيرة لكنها تحتاج إلى رؤية وفكر استراتيجي، وإخلاص وطني، وقيادة سياسية واعية .

 

والغريب أنه سبق أن وضعت لهذه المواقع دراسات عكف عليها العلماء لعشرات السنين، ولو أنها نفذت لفتحت أمام مصر أبواباً مضافة، للازدهار في الزراعة والصناعة .

مثلاً سيناء بها فرص واسعة وهائلة للزراعة والصناعة والتعدين، وكان الخبراء الذين وضعوا مشاريع لاستثمارها، قد اتفقوا على أن المشروع القومي لتنمية سيناء، لو نفذ، لكان قد وفّر لمصر على الأقل ما تستورده من الغذاء الذي تبلغ نسبة استيرادها من الخارج، إلى ما يراوح بين 65% - 70% من احتياجاتها من المواد الغذائية .

وفي مصر تمثل الصحراء الشاسعة 94%، من مساحة  الدولة . وكانت جهات عديدة منها متعهد الصحراء، قد أكملت دراسات عن استغلال تلك البيئة الصحراوية اقتصادياً بما يضيف مصادر جديدة إلى القدرات الإنتاجية لمصر .

كما تشغل البحيرات مساحات كبيرة لكنها تعرضت لغزوات مدمرة, بتجفيف مئات الآلاف من الأفدنة، ما يفقد مصر مصدراً إنتاجياً هائلاً .

وهناك الظهير الصحراوي لقرى الساحل الشمالي، الذي كانت قد أعدت له أفكار لتحويله إلى مناطق تتخصص في المنتجات البيئية المتميزة من زراعية وصناعية .

هذه مجرد نماذج، وهناك غيرها الكثير، لكنها لا يمكن أن تستثمر بإجراءات جزئية، فلابد من تصور متكامل، واستراتيجية شاملة للتنمية الاقتصادية،  تتحرك في إطارها كل هذه المواقع معاً، لكن ذلك يسبقه قيادة سياسية تتمتع بالمواصفات التي اتفق عليها الخبراء والدارسون في العالم، والتي لا يمكن أن تتحقق من دونها، تنمية اقتصادية ناجحة .