إعادة ترتيب الأولويات بقلم : عاطف الغمري

إعادة ترتيب الأولويات بقلم : عاطف الغمري
إعادة ترتيب الأولويات بقلم : عاطف الغمري

إعادة ترتيب الأولويات بقلم : عاطف الغمري

تستلهم الدول الناجحة، من عقول خيرة أبنائها، الأفكار التي تبني عليها بعد ذلك خطط الحكم وسياساته . ولهذا يستخدم بعض علماء السياسة تعبير “دولة بلا عقل”، لوصف الدولة التي تستبعد ما لديها من مخزون العقول، وتستعين بالهواة، والمقربين، بصرف النظر عن قلة كفاءتهم، وذلك في عصر صارت فيه السياسة وإدارة الحكم علماً يستمد منه الحكام الأنفع من خلاصة تجارب الآخرين، ومن ملاحقة العصر ومقتضياته وقواعد عمله .

وسبق أن أدركت دول كانت صغيرة وفقيرة، في لحظة انتهاء النظام الدولي القديم، وسقوط الأنظمة الشمولية الأيديولوجية، ونهاية الحرب الباردة العام ،1989 أن إدارة السياسة، والاقتصاد، وقضايا الأمن القومي، لها أدوات غير ما كان متبعاً، فسارعت بناء على تشخيص إبداعات عقول أبنائها، إلى تعديل أولوياتها، وتبني أفكار تناسب العصر . وكانت نتيجة ذلك ما حققته هذه الدول، من تقدم وازدهار في سنوات قليلة . بينما الدول التي لم تع طبيعة هذا الجديد والمتغير، ساءت أوضاعها، إلى الدرجة التي صارت توصف فيها بالدول الفاشلة (Failed States) .

وفي عصر ثورة المعلومات الذي بدأ العام ،1991 عقب غروب شمس عصر الثورة الصناعية، فإن أي بناء لا يقوم على العلم، يظل مختلاً، وهو عصر تحددت فلسفته وقاعدة عمله، على مبدأ التغيير، بعد أن أصبحت معظم النظريات والأفكار السياسية التقليدية التي كانت ملهمة لسياسات الدول والحكومات، معطلة عن العمل، وغير صالحة للتعامل مع مشكلات هي بالضرورة ليست تقليدية . كما أنه عصر ينجح فيه أصحاب القدرة على إطلاق الخيال، والإبداع، وإنتاج الأفكار التي تتعامل مع عصر اختلفت فيه طبيعة التحديات .

ومن جملة هذا الإبداع العقلي، تأتي الرؤية الواضحة، التي تبنى عليها استراتيجية للمدى البعيد، إضافة إلى التحرك على المدى القصير، بسياسات تتصدى في الحال للمشكلات العاجلة .

وبناء على هذه الرؤية، تعيد الحكومات ترتيب أولوياتها، لتتماشى مع احتياجات المرحلة الزمنية الراهنة، وتستخدم استراتيجيتها في حشد ما لديها من إمكانات، لبلوغ الهدف الذي تتحرك نحوه، وفق خطة مدروسة .

وفي إطار المرحلة الزمنية التي نعيشها هذه الأيام، لا يكف المصريون عن التساؤل: أين الفكر السياسي والاقتصادي للحكومة القائمة؟

 والسؤال مطروح يومياً، أمام طوابير المشكلات المتراكمة، والمستجدة، فضلاً عن الغموض والارتباك اللذين يحيطان بأي قرارات، للتعامل معها 

في مثل هذه الحالة، لا يغيب عن فطنة أحد، أن الأمر يحتاج إلى مشروع قومي مدروس، لاحتواء كل المشكلات، وإعادة بناء الدولة، بما يدفعها إلى التقدم والازدهار، بشرط أن يضعه أهل العلم والخبرة والتخصص .

إن الدول التي تتعرض لتعقد مشكلاتها، والتي تصير عصية على الحل، فإنها تسارع إلى إعادة ترتيب أولوياتها، حتى لو تطلب الأمر تشكيل حكومة وحدة وطنية، تضم ذوي الفكر السياسي المتنور، وأصحاب الخبرات القادرة على انتشال البلاد من المأزق الذي تواجهه . ولعل أدق مثل كان يفرض قبول هذا الخيار، ما تعرضت له قضية مياه النيل في مصر، من أخطار، نتيجة قرار إثيوبيا، بناء “سد النهضة”، وتحويل مجرى نهر النيل .

كان ينبغي استدعاء الخبراء والمختصين بالجوانب القانونية، والفنية، والدبلوماسية، فضلاً عن أجهزة الأمن القومي، لتشخيص المشكلة القائمة تشخيصاً علمياً، وأن يأخذ النظام بما يصلون إليه معاً من صياغة رؤية، حتى لو كان في ذلك التخلي عن العناد ببقاء الحكومة نفسها التي ثبت عجزها عن إدارة أي أزمة، أو حل أي مشكلة، والتمسك بالانفراد بإدارة مشكلة وطنية كبرى، يلزمها إدارة من نوعية ترتقي بأدائها وتفكيرها، إلى مستوى المشكلة .

نحن أمام قضية شعب ومصير أمة، لا يصلح لإدارتها فريق بمفرده، فهي تماثل المواقف التي تكون فيها الدول معرضة لحالة حرب التي سبق لدول أخرى عندما وجدت نفسها في مثل هذا الموقف، أن تبنت صيغة حكومة الوحدة الوطنية .

ثم إن من شأن مثل هذه الخطوة، تعزيز مركز الحكم، وخلق ظهير شعبي داعم له، والتخفيف من الغضب العام الذي يسود البلاد . لأن خطوة كهذه يمكن أن تغير الحال، وتوجد حالة من الرضا العام الذي ينعكس بآثاره الإيجابية على مختلف أوضاع البلاد - سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وأمنية .

إن الثبات على أولويات كان الحاكم يتصور أنها تناسب مرحلة زمنية، لها عنده حساباتها، يصبح نوعاً من مناطحة الصخور، طالما أن الظروف قد تغيرت . فالسياسة وإن كانت لها قواعد مستمرة، إلا أنها بغير المرونة لمواكبة التغيرات الكبرى، تصير، إبحاراً على غير هدى، بسفينة، في بحر تتلاطم أمواجه .

إن أي نظام حكم، ليس مالكاً للدولة، فهو مكلف لفترة زمنية موقوتة، من جانب الذين أعطوه أصواتهم ليتقدم بهم إلى الأمام، وأن يستمع إليهم، وألا يصم أذنيه عن صرخاتهم الغاضبة، وكأنهم لم يعد لهم وجود في حساباته، بينما هم موجودون من قبله ومن بعده .

إن مصر ليست معدمة من عقول أبنائها الذين يملكون أفكاراً تنجو بمصر من المشكلات التي تواجهها، والذين تتنوع خبراتهم في كل مجال وتخصص . ثم إن مصر ليست دولة بلا عقل .