خطة طمس هوية الدولة تبدأ بهدم مؤسساتها بقلم عاطف الغمري

خطة طمس هوية الدولة تبدأ بهدم مؤسساتها  بقلم عاطف الغمري
خطة طمس هوية الدولة تبدأ بهدم مؤسساتها بقلم عاطف الغمري

خطة طمس هوية الدولة تبدأ بهدم مؤسساتها بقلم  / عاطف الغمري

ما الذي يوجد هذا التلاقي بين مشروعات خارجية، هدفها هدم الدولة أو تفكيكها، وبين دعاوى وأفكار ظهرت في مصر من بعد ثورة 25 يناير، في صورة تناطح وليس تفاعلاً سياسياً، حتى ولو لم يكن هناك اتصال بين الجانبين المتباعدين جغرافياً؟

بعد الثورة في 25 يناير ،2011 كان ميدان التحرير المفتوح من جميع مداخله، هو رمز الثورة، ومكان قوتها الوليدة، فتدافعت على الميدان، أعداد كبيرة من جماعات، بعضها كان من البداية بعيداً عن العمل السياسي، ورافضاً لفكرة الثورة، والبعض الآخر متردد في إظهار تقبله لها، إلى أن تأكد له أن الغلبة ستكون لفكرة الثورة . عندئذٍ سارع إلى اللحاق بركبها .

وفي حلبة التناطح جرى عن عمد إقصاء الطليعة التي أطلقت شرارة الثورة، ومعها قطاع من النخبة، كان صوته عالياً في المطالبة بالتغيير، والإصلاح، ومناهضة سياسات النظام، طوال عشر سنوات من قبل يناير 2011 .

وفي أجواء الدخول في مرحلة صراع بين أطراف لها توجهات متناقضة، أخذت تنطلق من الجموع التي قفزت إلى قطار الثورة لاحقاً، دعوات تحمل نزعة هدم الدولة، باستهداف مؤسساتها الراسخة، بينما كان الهدف الأصيل للثورة، هو إعادة بناء الدولة الحديثة والقوية، وإنهاء عزلتها عن موجات التقدم في العالم .

وقد تتراءى لمتابع المشهد السياسي، سمات مشتركة، ولو من بعيد، بين مثل هذه النزاعات إلى الهدم، وبين مثيلاتها في مجتمعات تختلف عن مجتمعاتنا في القيم والفكر والثقافة .

وعلى سبيل المثال،  يبرز على الجانب الآخر البعيد، ما كشفت عنه التحقيقات الأمريكية في حادث تفجير المبنى الحكومي الفيدرالي بولاية أوكلاهوما العام ،1993 عن وجود منظمات أمريكية خالصة، تتبنى فكرة تكفير الدولة، وترفضها - حسب معتقداتها الأنغلوسكسونية - والعمل على هدمها، اعتقاداً منها بأن الدولة بصورتها الحديثة، لا تعبر عن منطق التفكير الأيديولوجي لهذه الجماعات التي تحمل السلاح .

وقد لوحظ عقب التحولات التاريخية، في العالم، بإنتهاء الأنظمة الشمولية، وسقوط هذه الأنظمة في أوروبا الشرقية العام ،1989 أنه بدأت تنتشر في صحف، ومؤسسات سياسية، أفكار تروج الفكرة أن العالم مقبل على نهاية عصور الدولة الوطنية التي تجمع في إطارها أعراقاً وديانات متعددة، يربط بينها مبدأ المواطنة، بحيث ينسلخ كل كيان عن الدولة الأم، ليقيم دولته الانفصالية .

وفي الإطار العام لهذا التفكير، ظهر ما يتعلق بنا كعرب، حين تكشفت التوجهات الاستراتيجية “الإسرائيلية”، التي تتحدث عن استهداف الدول العربية، وتفتيتها من الداخل .

وهو ما نشر في وثائق ودراسات، منها كتابات المحلل العسكري “الإسرائيلي” زئيف تشيف الذي كشف مبكراً عن خطة تقسيم العراق، إلى ثلاث دول سنية، وشيعية، وكردية .

وهو ما أكدته الوثيقة التي حملت اسم “استراتيجية “إسرائيل” للثمانينات”، التي شرحت مخططات إشعال الخلافات الطائفية في مصر بين المسلمين والأقباط، بهدف إثارة نعرات طائفية لتقسيم مصر .

وحين أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش في العام ،2004 مشروعه “الشرق الأوسط الكبير”، اتضح أن هذا المشروع يخدم فكرة التفتيت وطمس الهوية الوطنية لدول المنطقة، بعد استيعاب العالم العربي في إطار منطقة أوسع جغرافياً، تمتد عبر العالم الإسلامي من أفغانستان شرقاً، إلى المغرب وشمالي إفريقيا غرباً .

بحيث تذوب في هذا الاتساع، القضية الفلسطينية، ولا تبقى حينئذٍ نقطة الصراع الملتهبة في الشرق الأوسط، بمفهومه الحالي . وكلنا يعلم أن مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو من وضع جماعة “المحافظون الجدد”، أصحاب نظرية سيطرة “إسرائيل” وتمكينها من المنطقة كلها .

وحين قامت ثورة 25 يناير في مصر، بدأت تتعالى أصوات من بعض الجماعات، تحمل نزعة هدم الدولة - الأمة، الراسخة تاريخياً، التي تكونت من أحداث وتراكمات تاريخية، ومن ميراث ثقافي متنوع، تشكلت منه الشخصية القومية للمصريين .

وهي الشخصية التي كانت عصية على التفكك أو الذوبان في هويات أخرى، بل إنها هي التي استطاعت أن تُذَوب، فيها، هجرات أجنبية، جاءت مع جيوش غزاة، فطبعتهم مصر بطابعها الوطني .

وخلال السنتين الماضيتين، بدأنا نسمع خطاباً، يرفض مفهوم الدولة بشكلها وقيمتها وتقاليدها، ودعوات لإعادة إنتاج دولة على نمط مغاير . وأديرت تحركات من شأنها - حسب تصور أصحابها - هدم الدولة، ليعيدوا هم بناءها على شاكلتهم، وظهر ذلك في حملات معادية لكل المؤسسات التي تقوم عليها بنية الدولة وهي:

الجيش، والشرطة، والقضاء،  والصحف، والإعلام .

وتصاعدت مطالبات بإنشاء كيانات موازية لمؤسسات الدولة، بدأت بمؤسسة الشرطة، بل وصدور تصريحات منشورة، لمتحدثين باسم بعض هذه المنظمات، تهدد بعمل مسلح ضد الجيش نفسه! كل ذلك كان يظهر أن مصر تواجه صراعاً داخلياً على طبيعة الدولة وتكوينها، يقف على جانب منه أصحاب هذه الدعوات غير المنتمية عقلاً وفكراً للوطن، وعلى الجانب الآخر جموع المصريين الذين يخرجون يومياً إلى الشوارع، رافضين دعوات المعادين للدولة الذين يريدون هدمها .

وبدت بعض المؤسسات المسؤولة في الدولة، وكأنها تقف أحياناً موقف المتفرج، وفي أحيان أخرى، تبدو متعاطفة مع هذه الدعوات، بسبب سلبيتها، حتى وإن أعلنت نظرياً أنها لا تتحيز لها . وهو ما يزيد من اشتعال الصراع، الذي يعرقل أي خطوة لاستقرار الدولة وتقدمها .

إن مثل هذه التوجهات من جماعات لا تفهم معنى الدولة، تعكس تجرداً تاماً من الحس السياسي، النابع من خبرات متراكمة، ومن ثقافة واسعة، تستوعب التغييرات الجارية في العالم، وما تحتويه من تطور في مناهج ومفاهيم العمل السياسي، والاقتصادي، والإنساني، ومن إدراك لطبيعة التحديات المتغيرة التي تواجه الدول، والتي لا تجعل أي دولة قادرة على أن تنعزل بمشكلاتها عن الآخرين .

وخاصة أن عصر ثورة المعلومات، قد أزاح الحدود التي كانت تحول دون انسيابية الأفكار، وفتح الباب أمام التأثير المتبادل بين الشعوب وبعضها، بحيث أصبح العالم الآن يأخذ بقاعدة المشاركة Partnership  التي تحتاج فيها كل دولة إلى مشاركة الآخرين معها، في مواجهة التحديات، وفي الاستفادة المتبادلة من تجارب البناء، والتنمية الاقتصادية.

إن مشكلة هذه التيارات، التي ركبت قطار الثورة متأخرة، لأن الثورة ليست من طبيعتها، أنها اعتادت لسنوات طويلة، الانغلاق على ذاتها، والعمل السري تحت الأرض، فتكونت لديها غريزة العزلة النفسية، والثقافية، والسياسية، عن الدنيا وما فيها .

ولهذا راحت تستخرج من عالمها السري المغلق عليها، أفكاراً ومفاهيم، لا علاقة لها بالزمن، والعصر، والعالم المتغير، ولا صلة له بالعمل السياسي، بينما السياسة من طبعها أنها حركة نشطة، تتجدد وتتطور، وتلاحق ما يتغير في تفكير الإنسان، وفي مزاجه النفسي، وفي العالم المحيط به .