سماسرة أطباء بغزة .. الدفع في العيادة والعلاج في المستشفى

اطباء.jpg
اطباء.jpg

غزة / المشرق نيوز

بعد مرور أشهر الحمل الأولى من المراجعة الطبية للمريضة "سمية.ع"، في عيادة الطبيب الخاصة التي دفعت خلالها المريضة تكاليف الكشف والعلاج واالأدوية للطبيب، كانت تتلقى "بعض الخدمات" غير المتوفرة في العيادة الخاصة في مستشفى ناصر الطبي بمدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، وهي ذات المشفى التي يعمل بها طبيبها الخاص خلال الفترة الصباحية، حتى أن أجرة العملية الجراحية التي دفعتها له في عيادته الخاصة أجراها لها في المستشفى.

"الدفع في العيادة الخاصة والخدمة في مستشفى حكومي" مختصر جُرم فساد واستغلال منصب يمارسه أطباء في مستشفيات قطاع غزة، خلسة بعيدًا عن أعين الجهات الرقابية المختصة.

تقول "سمية" التي أجرت عملية داخل مستشفى ناصر الطبي بإشراف الطبيب "س.م" الخاص: "تابعت أشهر حملي الأولى في عيادته الخاصة، وبالطبع خلالها دفعت ما دفعت من كشفيات ومراجعات وما شابه في كل زيارة كونها عيادة خاصة، وكان من المفترض أن تتم ولادتي قيصريًا منذ بداية حملي لعدة أسباب مرتبطة بحالتي الصحية، وتم تحديد موعد ولادتي مسبقًا بالتنسيق مع الطبيب على أن يقوم هو بإجراءها".

تضيف: "رافقتني أمي خلال زيارة الطبيب في العيادة الخاصة، وقالت له حرفياً: "ما بدنا نوصيك يادكتور، دير بالك عليها واهتم فيها".

أجاب الطبيب-تروي سمية-: "على راسي لكن هذا له حساب ثاني".

ردت والدة سمية بخوف حيث أنّ ابنتها كانت تعاني حينها من سكر الحمل، وتعرضت لمضاعفات مرضية خلال أشهر حملها: "سنعطيك ما تريد"، وقدمت له مبلغاً بقيمة 200 شيكل، "وما عجبه"، تقول سمية.

تؤكد المريضة أنها كانت في أشد الحاجة لوقوف أحد بجانبها في حملها الأول، وخشيت على نفسها وصحة جنينها؛ ولهذا كانت تلتزم المراجعة الدائمة لدى الطبيب المذكور.

تقول: "ما زلت أشعر بالصدمة من أفعال الطبيب ذاته، فقد اعتقدت أنّ تسديدي لمبلغ العملية في العيادة الخاصة قد يغنيني عن دفعها مرة أخرى في المستشفى العام الحكومي، ولكن للأسف أُجريت لي العملية بناء على توفر التأمين الصحي كباقي الناس".

تصف ما فعله الطبيب معها: "للأسف إذا بتدفع بتلاقي مين يخدمك ففي معظم الأحيان بكون بدهم رشوة".

استغلال وإهمال بعد الدفع

لم تكن مخالفة الطبيب المذكور في تعامله مع حالته المرضية "سمية" الوحيدة، فهذا هو كما تقول "أسلوبه مع الكل".

كما لم تكن حالة "سمية" الوحيدة التي رصدتها شبكة "نوى" خلال تحقيقها، فقد رافقت الشبكة حالة مرضية أخرى توصلنا إليها، واشتكت من معاملة وسلوك الطبيب معها بعد "انتهاء مصلحته" كما تقول.

توضح (ص.د) البالغة من العمر (32) عاما من سكان بيت لاهيا شمال القطاع: "دفعنا له أجرة العملية، وأجراها لي وأنا في حالة سيئة، وقد تجاهلنا كثيرًا بحجة الازدحام في المستشفى، وكاد أن يؤجل متابعته لي رغم ملاحظته لسوء وضعي الصحي، وأجرى لي العملية في تمام الساعة الثالثة عصرا بعد مرور يوما كاملا على الألم الشديد، وغادرت المستشفى بعدها".

"نوى" راقبت أداء الطبيب-نتحفظ على ذكر اسمه- والذي اشتكته المواطنة، وكانت الصدمة خلال انتظارنا لموعد مراجعتها بعد العملية، حيث تعرضت بعد أسبوع من حدوث مضاعفات صحية لها على إثر العملية التي أجراها لها وتوجهت إلى المستشفى الإندونيسي في غزة، والذي رفض أيضًا استقبالها وطالبوها بمراجعة الطبيب الذي أجرى العملية.

يُذكر هنا أن المواطنة (ص.د) أجرت عمليتها في مستشفى "مبارك" الطبي، أثناء فترة زيارتها لبيت أهلها الواقع في محافظة خانيونس، وعادت بعد أسبوع لبيت زوجها شمال القطاع، حيث فضّلت أن تكون تحت رعاية أمها خلال العملية.

بشهادة "نوى" وبعد معاناة الوصول إلى جنوب القطاع حيث مستشفى "مبارك"، استدعت والدة المريضة الطبيب وجرى حوار بينه وبين مريضته التي طلبت منه إفادتها بسبب تفكك غرز العملية والتهابها والمضاعفات بعد "كل ما دفعت"، كما قالت له حرفيًا.

لم يكترث الطبيب المذكور لأمرها وأبدى انشغاله بأمور أخرى، ووسط صدمة المريضة صاحت والدتها: "أنا أحمّلك مسئولية كل ما جرى معها"، فرد الطبيب: "عندك الإدارة اذهبي واشتكيني لها".

وبالفعل غادر الطبيب المستشفى، وأجرى الطبيب المشرف خلال فترة مسائية في المستشفى متابعتها وأوصى بضرورة أن تقبع داخل المستشفى لمدة 10 أيام، لحين تنظيف مكان الغرز تدريجيًا والتغيير على جرحها يوميًا، ومن ثم إعادة إجراء غرز جديدة لها في البطن.

تقول داخل المستشفى وقد بدت في حالة صعبة ويتملكها الغضب والحقد على طبيبها -الذي دفعت له-: "حسبي الله عليه، إن شاء الله كل ما أخذه يتلقى بسعره أدوية، ليتذوق ما تذوقته".

ودفع المواطن الخمسيني "أبو وائل" تكاليف إجراء صور الأشعة الخاصة الموضحة لحجم المشكلة التي يعاني منها المريض، بالإضافة إلى صورة "الرنين المغناطيسية" لدى أحد الأطباء في عيادته الخاصة، على أن ينجز النصف الآخر المطلوب من الصور في المستشفى العامل بها، تمهيدا لإجراء عمليتين في ظهره وقدمه.

ويقول: "لم أكن أعلم بأن هذا الأمر مخالفا للقانون، فقد كان همي الأول والأخير أن أنتهي من قصص التصوير والفحوصات، ومن المتوقع أن يحدد لي إجراء عملية قريبًا".

العشرينية "إيمان بركة" إحدى الحالات التي تحدثت لـ"نوى" عن تجربتها مع طبيب "نصب عليها" كما وصفته، وتقول: "تابعت عنده في عيادته الخاصة وهو الطبيب- "ن.ق" كان يخدمني وأتابع عنده ساعات وفي أحيان في المستشفى أثناء دوامه فيها".

وعند سؤالنا لها عما إذا كان ذهابكِ إليه بالمستشفى بطلب منه بعد الدفع أم لا، فأجابت: "نعم، كان يجري لي بعض الأمور في المستشفى، لكن كل المصاريف دفعناها في المستشفى".

ولكنها استدركت حديثها بيوم ولادتها، وقالت: "حضرنا المستشفى ودفعنا له المال لكي يطمئن ويتابع حالتي، وحينما وصلنا المستشفى اتصلنا عليه مرارًا ولم يرد على الاتصالات، وحتى لم يكلف نفسه بالعودة للاتصال بعد ساعات".

أنهت إيمان ولادتها داخل مستشفى "مبارك" وهي تكظم غيظها تجاه طبيبها الخاص، ولكنها تفاجئت بوجوده داخل المستشفى خلال اتصالها عليه، وهي تقول: "طلع نصّاب طول فترة اتصالنا فيه وهو بالمستشفى، تفاجئنا به أثناء ملاحظتنا وجوده في الطابق الأسفل"

وحينما تم مواجهة الطبيب أفادها-حسبما تسرد-: "علمت متأخرا أنه قد تمتعملية ولادتك فلم أعاود الاتصال بك"، وهي تعتبره "عذرا أقبح من ذنب".

مخالفة قانونية

ويخالف ما ارتكبه الطبيب قانون الخدمة المدنية رقم 4 للعام 1998، الذي يحظر في المادة 67، من الجمع بين وظيفتين أو أي عمل آخراً يؤديه بنفسه أو بالواسطة، كما يخالف هذا السلوك مدونة السلوك الوظيفي التي أعدها ديوان الموظفين في العام 2016، والتي تحظر على الموظفين ومن بينهم الأطباء في المشافي الحكومية قبول الرشاوى أو الإكراميات.

أيضًا يخالف بالدرجة الأولى نظام التأمين الصحي المعمول به في قطاع غزة، والذي يحدد طبيعة الخدمات والمساهمات المالية التي يساهم فيها المواطن أثناء تلقيه الخدمة داخل المستشفى الحكومي، والذي ينص: "على أن يدفع المواطن رسومًا رمزية لتلقي الخدمة.

وتنص المادة 103 من الأمر المصري بشأن الرشوة رقم 69-1953، المطبق في قطاع غزة بأن "كل موظف عمومي طلب لنفسه أو لغيره أو قبل أو أخذ وعداً أو عطية لأداء عمل من أعمال وظيفته يعد مرتشياً ".

موجودة بشهادة الوزارة

"نوى" قابلت الجهة المختصة في وزارة الصحة ووضعت بين يديها إفادات الحالات المرضية المشتكية أعلاه، بالإضافة لأخرى، وبعد الحديث أكدت على لسان مدير دائرة الرقابة في الوزارة أيمن الحلبي، بوجود تجاوزات من هذا النوع بين الأطباء، وأكد الحلبي أن القانون يمنع أياً من الكوادر العاملة في المستشفى من تجاوز المسموح، أو تحصيل رسوم لا ينص عليها القانون.

ويقول الحلبي: "إن الطبيب خالف بذلك نظام التأمين الذي يحدد خدماته والمساهمات المالية للمواطن داخل المستشفى الحكومي، فبشكل عام ما يدفعه المواطن هي رسوماً رمزية معروفة، كما أن هناك أنظمة تحدد كيفية تسجيل المريض وتحويله للمستشفيات والخدمة داخلها".

وحول الأطباء المذكورين في تحقيق "نوى" أجاب الحلبي: "لا يجوز أن يقدم خدمة داخل المستشفى مقابل تلقي مصالح مالية أو شخصية خارج الوزارة، وهذا الجرم المرتكب له عقوبة يتم تحديدها حسب مقدار المخالفة، وأؤكد أنه في هذه الحالة لا تكون العقوبة واحدة".

لكن الحلبي يضيف "أن المواطن المريض يتحمل جزءاً من المسئولية في هذا الجانب، كونه سمح للطبيب باستغلاله، ودفع له الأموال مقابل الخدمة الصحية، لأنه مفترض منه أن يرفض دفع أكثر من الرسوم المستحقة في المستشفى حسب الأصول".

خلال الحديث أقرّ الحلبي بضبط حالات بين الكوادر الطبية داخل بعض مشافي الوزارة، سواء كان طبيباً أو ممرضاً أو غيرهما.

يقول: "هذا النوع من المخالفات موجودة، وقد تعاملنا مع بعض حالات السمسرة في قسم التمريض، وعدد قليل من الأطباء، مقابل تقديم خدمة ما".

ويتابع: "تم ضبط كوادر مخالفة سواء عبر الكشف من خلال دائرة الرقابة، أو من خلال دائرة الشكاوى التي تتلقاها الوزارة، ويتم التعامل معها بسرية تامة بحيث لا يسبب ضرراً للمواطن، ويتم التعامل مع الطبيب أو الممرض المخالف والعمل على علاج المشكلة حسب القانون".

"معدودة والعقوبة متفاوتة"

مدير عام الشئون القانونية في وزارة الصحة سعيد البطة، أجاب على سؤال حول عدد الحالات التي تم التعامل معها ممن ارتكبوا هذا النوع من المخالفات ضمن الكوادر الطبية بالقول: "إنه خلال العام لم يتعدى أصابع اليدين"، واعتبر في ذات الوقت أن عدد المخالفات التي يتعامل معها كونه الجهة التنفيذية المختصة بذلك، هو عدد طبيعي وأن التجاوزات حالة تحصل في أي وزارة.

وعن طبيعة العقوبات التي يتم إقرارها تجاه المخالفين أجاب: "المادة 68 من قانون الخدمة المالية تنص على عشرة عقوبات لمن يثبت عليه من الموظفين ارتكاب مخالفة أو جرم مالي داخل مستشفيات الوزارة".

وعن العقوبات التي اتخذتها الوزارة تجاه الكوادر الطبية التي تقاضت أموالاً من مواطنين أو مرضى دون وجه حق قال: "سبق أن حدث فصل موظف في مستشفى بسبب هذا النوع من المخالفات وقد تم إثبات مخالفات أخرى، لهذا كانت العقوبة شديدة".

وأكمل "العقوبة تبدأ بإشعار الموظف بإمكانية حصوله على عقوبة إبعاده من مكان عمله لمكان آخر، أو اتخاذ إجراءات تحفظية أخرى وتحذير بعدم التكرار، وهناك عقوبة التحفظ على الموظف نفسه، وإذا تكررت المخالفة قد يصل العقاب للفصل".

انتهاك فردي

حالة الفساد بما يتعلق بالدفع في العيادة والعلاج في المستشفى الحكومي من حيث توصيفها في مشافي القطاع، قال عنها صلاح عبد العاطي المحامي والناشط الحقوقي: "إن أي جريمة حاصلة هي فردية، والانتهاك في أي مخالفة هو فردي".

ورغم تأكيد عبد العاطي أن القطاع الصحي من مشافي ومؤسسات وغيرها في غزة تشهد تراجعًا في الخدمات الصحية والأدوية؛ بسبب الحصار والعقوبات وعدم تطوير هذا القطاع، بالإضافة إلى أزمة الرواتب، إلا أنه اعتبر في ذات الوقت أن هذا ليس مبررًا لارتكاب هذا النوع من المخالفات.

وقال :"إنه من المهم كون هذا النوع من الجرم فردي، أن يتوجه المواطن أو المريض الذي لديه شكاوى أو تعرض لهذا النوع من الاستغلال إلى دائرة الشكاوى في الوزارة أو المؤسسات الحقوقية، لضمان عدم تكراره".

وفي ذات الوقت حذّر المحامي عبد العاطي، من أن التراجع الحاد في القطاع الصحي في غزة سيؤدي لاستمرار الأخطاء الطبية والقضايا الطبية وغيرها من الآثار المدمرة، خاصة في ظل عقوبات السلطة عليها.

وسبق أن أوصت العديد من المؤتمرات العلمية في قطاع غزة بضرورة سن وإصدار تشريعات خاصة بالمهن الطبية للعاملين في العيادات، والمراكز، والمؤسسات، والهيئات الخاصة تتعلق ببيان حقوقهم وواجباتهم وطرق مساءلتهم جزائياً ومدنياً وتأديبياً.

لكن المسئول الحلبي يقول: "إن هناك معيقات كبيرة تواجه القطاع الصحي في غزة بالتحديد، نظرًا للحصار والظروف الراهنة وكثرة المرضى والمراجعين".

وفي ذات الوقت، هذا لا يعدّ مبررا كما أوضح الحلبي لارتكاب أي فساد أو مدخلًا لاستغلال المرضى، وهو من أجل هذا يدعو المواطنين أصحاب الشكاوى أعلاه وغيرهم بالتوجه لدائرة الشكاوى في الوزارة، سواء عبر صفحتها على الإنترنت، أو مقرها، أو الاتصال المجاني على الرقم (103).