إعلام الترهيب ... خيري منصور

إعلام الترهيب ... خيري منصور
إعلام الترهيب ... خيري منصور

إعلام الترهيب ... خيري منصور

هذا نمط ثالث من الإرهاب لكنه ليس من سلالة رسمية تقليدية كالتي يجسدها نظام استبدادي أو سلطة شمولية، إنه إعلامي في ظاهره لكن جذوره وبواعثه أيديولوجية، لأن يقسم البشر إلى فئتين لا ثالث لهما، فهم إما ملائكة معصومون وإما شياطين ملعونون، وعلينا أن نختار وفق هذا التقسيم بالرغم من أن أعظم منجز حضاري وعقلاني في التاريخ هو الجدلية التي تفرز بعداً ثالثاً، وهذا ما أثار حفيظة مفكرين غربيين ضد ما كان الرئيس الأسبق بوش الابن يكرره، وكأنه يعيد صياغة كونفوشيوس لكن بعد تفريغه من الحكمة، والمقولة “البوشية” الشهيرة: “من ليس معنا هو عدونا بالضرورة” أساءت إلى أمريكا أولاً ولتراثها منذ الثورة وبواكير الحداثة . لكن هذا الطرح تحول إلى ما يشبه المناخ الذي يُبث في العالم كله، فالآن هناك من يحتكمون إلى هذا المعيار الثنائي في تقييم المواقف والأشخاص، وفي الوطن العربي أخذت هذه الأطروحة الخرقاء صيغاً عدة، بحيث يتم تقسيم الناس إلى كافرين ومؤمنين، وثوريين ورجعيين، وما من هامش أو مساحة بين هذه النقائض، وإذا كانت هناك أسباب ومقدمات للحروب الأهلية غير التعصب الطائفي والعرقي وتوتير المجتمع أيديولوجياً، فهي من صميم هذا التصور الذي لا يعترف بالرمادي بين الأسود والأبيض، أو بلحظة الغسق بين غياب الشمس والليل، ولهذه الثقافة الطارئة إعلامها ومنظروها وهم الذين يذهبون بها إلى أقصى الترهيب الفكري، لأنهم يتعاملون مع أنصاف الجمل، أو على طريقة “ويل للمصلين”، وبهذا الانتقاء الذي يقتضي بالضرورة حذفاً مخلاً بأي خطاب أو موقف يكون الترهيب قد عثر على مبرّره الوهمي، ظناً من هؤلاء أن الرأي العام في غيبوبة أو أنه عجينة رخوة قابلة لأي تشكيل .

إعلام الترهيب لا يعرف الترغيب الذي طالما اقترن بهذه الفلسفة، لأن الآخرين جميعاً على خطأ باستثناء من يزعم احتكار الصواب، ولأن السبعين فرقة أو حزباً في الجحيم، أما الناجي فهو من يستحوذ على الحقيقة، خصوصاً إذا كان مدججاً بالسلطة فقط وليس بالإيمان .

وكنا نتصور قبل أن يصبح الفضاء غابة من الشاشات والأقمار الصناعية، أن هذا التطور سوف يخدم حقنا في الاختلاف وأنه سيردم الهوة التي أحدثها الإعلام المؤدلج الذي تعسكرت حتى مصطلحاته، لكنّ ما انتهى إليه الأمر بخلاف ذلك تماماً، فثمة الآن حروب أهلية بين فضائيات تسبح جميعها في المجرة ذاتها، ولحسن الحظ فإن هذه القنوات المتحاربة لا تملك غير التحريض بالكلام، لكن ما يعقب ذلك هو تحول الكلمات إلى رصاصات أو هراوات .

إن العودة بنا مجدداً إلى المبارزة بالتخوين والتكفير والخروج أو المروق، هي مصادرة على كل ما يمكن أن يولد من هذا الحراك في نطاقيه الإنساني والقومي، خصوصاً بعد أن زُجت حتى النوايا في تصنيف الناس، هذا إضافة إلى فقه جديد هو فقه التقويل بديلاً للتأويل، فالتأويل إثراء للنصوص والمعرفة، أما التقويل فهو تعسف وافتراء وتعذيب خصوصاً للنصوص، كي تعترف بما لم تقترف، أو للأشخاص كي يعاقبوا على ما لم يرتكبوا .