تصنيع القضايا البديلة ... خيري منصور

تصنيع القضايا البديلة  ... خيري منصور
تصنيع القضايا البديلة ... خيري منصور

تصنيع القضايا البديلة  ... خيري منصور

ازدهرت في العقود الثلاثة الماضية صناعات لا علاقة لها بالمناجم أو الطاقة والمواد الخام لأنها ذات قشرة ثقافية وطلاء من مصطلحات مزخرفة، لكن محتواها سياسي بامتياز، منها تصنيع القضايا البديلة، وخلاصة هذه الصناعة هي أن هناك مختبرات استراتيجية وظيفتها استبدال القضايا الملحة، تماماً كما تستبدل القابلات الأجنة إذا طلب منهن ذلك، وإن كان لا بد من أمثلة فلنبدأ من الصراع العربي - الصهيوني الذي دام قرابة قرن لأنه يمتد إلى ما قبل وعد بلفور، فهذا الصراع أصبح الآن ثانوياً قياساً إلى صراعات أخرى منها الطائفي والعرقي والجهوي، ومن نتائج هذه الصناعة تهجير شحنات الانفعال من صعيد إلى آخر .

تماماً كما يقول علماء النفس عن دور اللعب التربوي، فهو يفتعل حروباً بيضاء وسلمية وبالتالي يكون فيه منتصرون ومهزومون، لكن بلا غنائم، أو ضحايا، ومن فروع هذه الصناعة أيضاً نقل ما هو جدي وحاسم إلى مستوى آخر مضاد، فالمباريات الرياضية بجماهيرها وعدد المقبلين عليها وصرامة حكامها أصبحت البديل لمباريات أخرى من صميم السياسة والقوانين، وحيث يصل التساهل والتسامح أقصاه في المجالات الجدية، تصل الصرامة ذروتها في مجالات اللعب والتسلية، كأن هذا النمط من الصناعات المبتكرة التي ترعاها الميديا المسيسة والمؤدلجة يحقق هدفين معاً، أولهما إفراغ الجاد من جديته، وثانيهما إبهاظ وإثقال المسلّي والثانوي بجدية ليست من عالمه، فخلال بضعة عقود ظفرت الرياضة ومبارياتها أكثر بأضعاف مما ظفر أي برلمان أو أية مسألة مصيرية تتعلق بالأوطان وسيادتها ومستقبلها .

والصادرات من هذه الصناعة معفاة من الضرائب وعابرة للحدود بلا أية عوائق لأنها ليست بضائع محمولة على سفن أو شاحنات، بل هي أفكار يحملها الهواء ومن ثم يتولاها البشر .

إنها مفارقة تندرج في خانة العجائب لأنها تهمش الأساسي والمركزي وتكرس الثانوي، وهذا ما يسمى الخلط العشوائي بين المقدمات والنتائج . فالغضب الذي يتنامى بسبب جرح وطني يجري تنفيسه في مجال آخر . ويصبح فريق رياضي خصماً بديلاً لخصم تاريخي، أما ثنائية المنتصر والمهزوم فهي أيضاً تهاجر من الميادين إلى الصالونات، وقد حدث بالفعل أن أفرغت انتصارات في اللعب انفعالات وطنية وقدمت إشباعاً كاذباً هو في النهاية مجرد سراب ما إن يصله الظامئ حتى تتشقق شفتاه من العطش .

وفي الآونة الأخيرة، شهدت هذه الصناعة تطوراً هائلاً، بعد أن وظفت الفضائيات ووسائل التواصل لخدمتها، فثمة برامج تقدم باسم الدين أو الثقافة هي في حقيقتها مجرد إعلانات عن تلك الصناعة، وفي حال الاستمرار في هذا الاستبدال المبرمج والممنهج للقضايا قد نجد أنفسنا كمن يأكل القشر ويرمي المحتوى، أو كالقط الذي يستمرئ طعم دمه وهو لا يدرك ما ينتظره من هلاك محتم .