مصر وميراث الوفد ... الحسين الزاوي

مصر وميراث الوفد      ... الحسين الزاوي
مصر وميراث الوفد ... الحسين الزاوي

مصر وميراث الوفد    

... الحسين الزاوي

إن المتتبع لما يحدث في مصر خلال الشهور القليلة الماضية سيصاب بكثير من الحسرة والذهول نتيجة لما آلت إليه الأوضاع السياسية في أرض الكنانة، فقد ادلهمت الخطوب وتقلصت مساحة التسامح وسعة الصدر التي كانت تميز المصريين على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم السياسية؛ وشرعت الأطراف المتصارعة في الدفع بمواقفها نحو حدودها القصوى، وانعكس ذلك بشكل بالغ السلبية والسوء على مواقف وسلوكيات المواطنين في الشارع، الأمر الذي بدأ يهدد وحدة النسيج الاجتماعي لهذا البلد الذي طالما عُرف بإعلائه وإجلاله لقيم السلم والمصالحة والإخاء .

 

وعندما نقارن هذه الأجواء المشحونة بأجواء أخرى مشابهة لها في تاريخ مصر المعاصر، فإننا سنلاحظ من دون ريب أن النخب الحالية، وبالرغم من كفاءتها واقتدارها الذي يشهد به القاصي والداني، إلا أنها أقل حنكة ومهارة من أسلافها في توجيه دفة الحوار والنقاش بعيداً عن استثارة غريزة التشدد والعنف الذي جُبلت عليها العامة . ولعل الكثيرين في مصر وخارجها ما زالوا يتذكرون الجدل والنقاش الحاد الذي صاحب إصدار كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، إذ إنه وبالرغم من الحساسية البالغة التي طبعت إشكالية العلاقة بين الدين والدولة في الإسلام عبر كل العصور، خاصة في تلك الفترة المتقدمة من عمر الدولة المصرية الحديثة، وبالرغم أيضاً من الملابسات السياسية التي أطّرت مواقف السلطة آنذاك التي كان يغمرها الطموح إلى إحياء دولة الخلافة بعد أن تهاوى رمزها العثماني على أيدي القوميين الأتراك؛ إلا أن النقاش السياسي تميّز بالكثير من الهدوء والرصانة واستطاع المثقفون المصريون حينئذ، أن يقدموا صفحات ناصعة البياض عن قيم المواطنة وحرية الرأي والقبول بالرأي المخالف .

 

وأحسبُ أن قسماً كبيراً من الرأي العام العربي سيشاطرنا الرأي عندما نذهب إلى التأكيد على أن “حزب الوفد” التاريخي بزعامة سعد زغلول باشا، لعب دوراً بارزاً في إشاعة هذا الجو الحضاري الكبير الذي ميّز تلك الفترة المشرقة من نضال الشعب المصري الذي كان يتوق إلى تأسيس مجتمع تعددي متطور في إطار دولة ديمقراطية حديثة ذات مرجعية حضارية عربية وإسلامية . ويتجلى هذا الميراث الذي يرمز له الوفد بمثقفيه وعلمائه وزعاماته السياسية، أشد ما يكون التجلي من خلال المواقف التي تم التعبير عنها غداة الضجة التي أثارها كتاب الشيخ علي عبد الرازق . فقد كان هذا الشيخ الأزهري المشاكس ينتمي إلى حزب الأحرار الدستوريين الذي أسهم في حرمان حزب الوفد صاحب الأغلبية، من حقه في تشكيل الحكومة؛ وبالرغم من كل ذلك فقد سخّر “الوفد” كل منابره الثقافية والإعلامية من أجل الدفاع عن حقوق المواطنة وحرية التفكير لصاحب كتاب “الإسلام وأصول الحكم”، وقد دوّن الفكر المصري هذه المواقف المشرفة والشجاعة بأحرف من ذهب .

 

ومن جملة ما تم تدوينه من آراء وتحليلات بشأن المحنة التي كابدها الشيخ المغضوب عليه، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ما كتبه أحمد حافظ عوض بك في “كوكب الشرق”، عندما قال ما نصه: “كنا نستطيع أن نستغل ذلك الحادث كسعديين (يقصد أنصار سعد زغلول) مخالفين لهم، هذا عدا ما في ذلك الاستغلال من الضرب على وتر الدين الحساس، وتنفير الأزهر من الأحرار الدستوريين- كنا نستطيع ذلك حزبياً، ولكن ضمائرنا أبت هذا الاستغلال ، ونفوسنا استنكرته، ووطنيتنا تسامت عن مثل هذه الاعتبارات الحزبية” . كما عبّر عباس محمود العقاد في سياق متصل عن رأي في منتهى الحصافة والرشد، أكد فيه على أهمية الحق في الاختلاف بقوله: “ . . وليس يعنينا هنا أخطأ في الاستناد والتخريج أو أصاب وإنما الذي يعنينا أنه صاحب رأي يُباح له أن يعلنه، كما يباح لغيره أن يرد عليه ويفنّده . أما أن يحاكم أو يقسر على ترك رأيه، لأنه خالف به بعض العلماء أو غير العلماء فهذا ليس من روح الحرية التي تحمينا جميعاً، ويجب علينا أن نحميها جميعاً، وليس من روح الدين الذي يغارون عليه، ويشنون هذه الغارة باسمه .( . . .) إننا لا نعرف صاحب (الإسلام وأصول الحكم) إذا رأيناه في الطريق، وليس هو من شيعتنا في السياسة، فنحن لا ندافع عن شخصه، ولا عن مذهبه السياسي، حين نكتب هذه الكلمة، ولكننا نودّ أن يعلم الذين لا يعلمون أن قد مضى الزمان الذي تتصدى فيه جماعة من الناس، بأي صفة من الصفات، لإكراه الأفكار على النزول عند رأيها، واستمداد الحرية من فضلات ما تسخو به لأنصارها . .” .

 

لقد كانت هذه المواقف قوية واضحة لا لبس فيها، في دفاعها عن حرية التعبير والتفكير والإبداع، رغم أن زعيم الوفد سعد زغلول انفرد بدفاعه عن حق هيئة علماء الأزهر في إصدار ما رأته ملائماً في حق ما أقدم الشيخ علي عبد الرازق على تدوينه من آراء في كتابه المثير للجدل، ولم يكن الرأي الذي تبنّاه الزعيم لينال من هيبة وصدق المواقف التي أفصح عنها مثقفو وإعلاميو أكبر تنظيم سياسي في مصر آنذاك، بل أثبت للجميع أن الحق في الرفض أو الاعتراض معترفٌ به حتى ما بين زعامات ومناضلي الحزب وأنصاره، وأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، من منطلق أن التنظيمات السياسية والأحزاب لا تُبنى على الطاعة العمياء، وإنما على المشاركة الفعالة لكل الأعضاء وعلى التوافق والإجماع في تسيير وإدارة الملفات التي تهم المجتمع برمته، ونزعم في هذه الساق، أن مصر التي تكاد تصاب في كبريائها، هي الآن أحوج ما تكون في هذه الفترات العصيبة، إلى هذا الميراث السياسي والحضاري الزاخر الذي تركه لنا أكبر حزب سياسي في تاريخ مصر والأمة العربية .