أية نهضة ... خيري منصور

أية نهضة ... خيري منصور
أية نهضة ... خيري منصور

أية نهضة ... خيري منصور

للنهضة في كل معاجم العالم وموسوعاته تعريف محدد، قد يزداد سطراً أو ينقص سطراً تبعاً للسياقات الحضارية والاجتهادات، لكن المعنى في الجوهر يبقى واحداً، وثمة قواسم مشتركة بين النهضات في مختلف العصور، إنها تجاوز وانحياز للمستقبل، وتغليب للعقلانية، وأخيراً احتكام إلى المنطق .

لهذا فالنهضة ليست مجرد عنوان أو قبعة أو واجهة لعرض حزمة من المفاهيم التي يعاد إنتاجها بالتلفيق وليس بالتناغم والمواءمة .

وحين تكون النهضة اسماً مستعاراً لنكوص تاريخي وترسيخ للاتباعية، فهي مجرد حفلة تنكرية، قد يموء فيها النمر وتصهل القطة، وقد تغيب الشمس في عز الظهيرة، فالمسألة قدر تعلقها بالأفكار ليست لعبة كلمات متقاطعة أو متصاهرة، لأن الواقع سرعان ما يقدم التكذيب الصريح لكل المزاعم التي تحاول أن تلوي عنق التاريخ وتبتكر منطقاً مضاداً يقدم النتائج على الأسباب . النهضة في أوروبا لها أقانيمها المعروفة وبالتالي ثمنها من كل ما تعرض له التنويريون، وهي لم تكن حتمية تاريخية ولم تقدم على أطباق من ذهب أو حتى من نحاس، فهي ثمرة الوعي بالاستحقاق، وثورة للعقل على مضاداته سواء كانت من الخرافات أم من صناعة محترفي إعاقة النمو البشري والعودة إلى الوراء .

والنهضة العربية في القرن التاسع عشر كان لها رواد ومقومات وتحالف استراتيجي بين ظروف ذاتية عاشها العرب وظروف موضوعية حاصرتهم، وما إن أوشكت على الوثوب والصهيل حتى كبت، ولم تكن كبواتها التي تعاقبت بسبب هشاشة العظام أو العمى، بقدر ما كانت نتيجة محاولات لإجهاضها وتدجين أطروحات روادها، لهذا مات الكواكبي أبرز رموز تلك الكوكبة مسموماً، ولا أحد من ذويه أو ورثته حتى اليوم يعرف المكان الذي دفن فيه، فالعقاب لم يسلم منه حتى الموتى وهذا ما فعلته سلطات الاحتلال في فلسطين عندما عبدت طريقاً له ألف بديل كي تهدم قبر عزالدين القسام وما يعنيه ذلك الرمز القومي، لأن الرجل جاء من الشام إلى غابات يعبد بالقرب من جنين كي يستشهد هناك، وكان جيفارا العربي الذي آمن بقومنة التحرير وتعريب القضية الفلسطينية كي لا تبقى في نطاق تضاريسها الجغرافية فقط .

النهضة تبشير بالقادم وليست بكاء على الأطلال وهي تنوير وليست إظلاماً، ووعد بالانعتاق وليست وعيداً بالاعتقال، ولهذا فهي لا تقبل الأسماء المستعارة، أو الاستخدام التكتيكي لتحقيق المآرب قصيرة المدى .

والعرب المعاصرون رغم كل ما طرأ على ثقافتهم ولغتهم، لا يزالون قادرين على التفريق بين العصا والناي وبين الغسق والشفق .

وإذا كان التاريخ قد عرف جرائم اقترفت باسم الحرية وأخرى بذريعة الديمقراطية، فإن هذه التراجيديا تقبل التكرار وعلى نحو أشد إذا ارتكبت كل آفات التخلف وكل أنماط الترهيب باسم النهضات، وإذا استمرت هذه الحفلة التنكرية سياسياً وثقافياً فإن الفارق سوف يحذف بين النهضة والسبات .