ماذا تغادر الاستثمارات العربية إلى تركيا؟ رغيد الصلح

ماذا تغادر الاستثمارات العربية إلى تركيا؟      رغيد الصلح
ماذا تغادر الاستثمارات العربية إلى تركيا؟ رغيد الصلح

ماذا تغادر الاستثمارات العربية إلى تركيا؟      رغيد الصلح

عندما تفاقمت الأزمة الاقتصادية العالمية أدركت العديد من حكومات آسيا وأمريكا اللاتنية، أن الطريق الأنجع لمواجهة هذه الأزمة واحتواء آثارها السلبية وأضرارها على الدول النامية، هو تنمية العلاقات الاقتصادية والتكامل الإقليمي بين هذه الدول . تحقيقاً لهذه الغاية اتجهت الصين إلى تنسيق سياساتها المالية مع عدد من دول المنطقة وخاصة جنوب كوريا، وعمدت رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان) إلى توسيع نطاق الاتفاقيات التجارية فيما بينهما لكي تشمل الصين واليابان وكوريا الجنوبية، وإلى تخصيص مبلغ 120 مليار دولار للاستثمارات المشتركة في المنطقة . خلال هذه الفترة، أي في العام 2009 تحديداً، اتخذت سبع دول في أمريكا اللاتينية قراراً بإنشاء بنك الجنوب برأسمال مقداره 7 مليارات دولار لتمويل المشاريع المشتركة فيما بينها، كما استحدثت دول التحالف البوليفاري فيما بينها مجلساً مالياً مشتركاً، وصندوقاً مشتركاً لتمويل العمليات التجارية البينية . هذه القرارات حققت نتائج إيجابية خاصة في جنوب شرقي آسيا .

 

تفاقم الأزمة الاقتصادية العالمية لم يؤثر كثيراً في المنطقة العربية ولكن تضافر هذه الأزمة مع الأزمات التي نشأت بعد “الربيع العربي”، واحتمال انتشار هذه الأزمات إلى خارج الدول التي شهدت أحداث الربيع، أثار قلقاً عاماً في المنطقة وحفز الحكومات العربية إلى درء الآثار السلبية للأزمات على المنطقة، وإلى السعي إلى الحدّ من تفاقمها ومن نتائجها الإقليمية . هذه المسالة حفزت مسؤولين عرباً إلى الإفادة من فرصة القمة التنموية العربية الاقتصادية والاجتماعية التي انعقدت في نهاية الشهر الفائت، والمطالبة بزيادة ومضاعفة ميزانية صندوق النقد العربي الذي يتولى تمويل مشاريع التنمية في المنطقة .

 

جاء هذا الاقتراح متماشياً مع تطور في مسار الاستثمارات العربية التي تخرج من بلدها . فبينما القسم الأعظم من هذه الاستثمارات كان يذهب إلى العالم الأطلسي، فقد لاحظت صحيفة “هيرالد تريبيون” الدولية (31/1/2013) أن نسبة مهمة من هذه الاستثمارات بدأت تتجه إلى دول المنطقة نفسها، لتحقيق ثلاثة أهداف أساسية: دعم اقتصادات هذه الدول وخاصة تلك الدول ذات المكانة الإقليمية، مثل مصر التي تشهد تأزماً سياسياً، والتخفيف من حدة التصدع السياسي الذي أصاب هذه الدول والذي يمكن أن يرشح منها إلى بقية أجزاء المنطقة، وأخيراً تنمية التعاون الإقليمي العربي وهو هدف مرغوب ومطلوب على صعيد الرأي العام العربي، والأخذ به يساعد على تحقيق انفراجات في المنطقة .

بينما رغب أصحاب هذا الاقتراح أن ينشّطوا حركة الاستثمارات في البلدان العربية، فإن اقتصاد السوق كان يدفع باتجاه المنطقة ولكن ليس إلى الدول العربية وإنما إلى تركيا التي نالت حصة الأسد منها، أي إلى البلد الذي لا يشعر بالحاجة الماسة إلى تنشيط حركة الاستثمارات فيه . فتركيا اليوم، كما قال أحد خبراء الاستثمار العاملين في الخليج، هي على رادارات أغلبية العاملين في حقول الاستثمار في العالم . ففي العام الفائت وحده بلغت نسبة الارتفاع في تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى أراضيها 60% بالمقارنة مع العام ،2011 ولقد وجد المعنيون بالاستثمارات الأجنبية التوجه إلى تركيا أمراً طبيعياً، حيث إن اقتصادها كان الأسرع نمواً في أوروبا خلال العام 2011 بحيث وصل إلى نسبة 5 .8% وهي نسبة لا تضاهيها نسبة نمو في أي بلد أوروبي آخر . وحتى لو صحت التوقعات التي تقول إن نسبة نمو تركيا قد تنخفض هذا العام إلى 5 .6%، فإن الاقتصاد التركي يبقى مرشحاً لكي يحصد نسبة عالية من الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك الاستثمارات العربية التي تفتش بحماسة عن فرص استثمار في الأسواق التركية .

إن الفارق بين الإقبال العربي على الاستثمار في تركيا، وعلى التلكؤ في توظيف الأموال في البلدان العربية نفسها، يثير بعض الأسئلة . صحيح أن الدول العربية التي تحتاج إلى الاستثمارات تعاني اضطرابات سياسية، ولكن تركيا ليست خالية تماماً من هذه الاضطرابات، بل إن البعض يقول إنها في قلبها . فبدلاً من سياسة “صفر مشكلات” التي رغبت أنقرة في تطبيقها مع دول الجوار، فإن الواقع هو أنها تعاني من واقع “صفر هدوء” في علاقاتها الإقليمية . أما في الداخل فإن حزب العدالة والتنمية الحاكم يعاني تحديات تتمثل في تفاقم القضية الكردية التي تداخلت مع تدهور العلاقات مع دمشق، وفي تنامي المعارضة المحلية التي تتهمه بالأوتوقراطية، تماماً كما تفعل بعض المعارضات العربية .

رغم المشكلات التي تعانيها تركيا، فإنها تبقى قادرة على توفير بيئة استثمارية أفضل بكثير من الدول العربية الأخرى التي تحتاج إلى الاستثمارات الخارجية . فالاقتصاد التركي دخل، كما تقول بعض التقييمات، مرحلة الإقلاع، بينما لا ينطبق هذا التوصيف على البلدان العربية . والنخبة الحاكمة التركية تبدو، رغم أنها لا تنفك تؤكد تمسكها بالنهج الاجتماعي المحافظ، أكثر قدرة على تمثل قيم ومعايير التحديث الاقتصادي والاجتماعي وموجبات الإصلاح السياسي من قريناتها في المنطقة العربية . وقد يتعرض المسؤولون الأتراك إلى الاتهام بالفساد، ولكن هذه الاتهامات بقيت محدودة الأثر، أما في المنطقة العربية فإن الأمر مختلف، إذ إن الاتهام يوجه إلى النخب الحاكمة عموماً .

 

وعلى الرغم من الاتهامات الموجهة إلى حزب العدالة والتنمية وإلى أردوغان شخصياً، فإنه ليس هناك من مؤشرات تدل على استعداد الحزب الإسلامي المنشأ والتوجّه، للخروج على المبادئ الديمقراطية من أجل بقائه في السلطة، ومن ثم لإطاحة النظام السياسي الذي تؤيده الأكثرية الساحقة من الأتراك . بالمقابل فإنه ليس هناك مؤشرات مماثلة تؤكد تمسك النخب السياسية الحاكمة بالنظام الديمقراطي في الدول العربية التي تسعى إلى اجتذاب الاستثمارات . بالعكس توجد مؤشرات إلى أنه في بعض هذه الدول هناك استعداد لعرقلة انتقال هذه الدول إلى مرحلة ترسيخ الديمقراطية والحيلولة دون أن تتحول الديمقراطية إلى النهج الوحيد لتنظيم عملية دخول السلطة وإدارتها والخروج منها .