الهوية والاغتراب الديني ... بقلم : د. حسن حنفي

الهوية والاغتراب الديني ... بقلم : د. حسن حنفي
الهوية والاغتراب الديني ... بقلم : د. حسن حنفي

الهوية والاغتراب الديني ... بقلم : د. حسن حنفي

قد يؤدي فقدان الهوية والتوحد مع النفس حرصاً على انقسامها إلى أشكال عديدة من الاغتراب أهمها الاغتراب الديني والاغتراب السياسي. وقد يوحي بالعقل النظري والعقل العملي ونقد ملكة الحكم كما فعل الفيلسوف الألماني كانط. وقد حاول الفيلسوف فيورباخ القضاء على هذا الاغتراب بتحويل الثيولوجيا إلى أنثروبولوجيا. فيثق الإنسان بنفسه ويسترد شجاعته، ويتخلى عن عجزه. ويحقق ما يحلم به. ويصبح ما ينبغي أن يكون هو ما هو كائن. لا يستطيع استرداد هويته كاملة ومرة واحدة. يحتاج إلى وقت وجهد زائدين. فالهوية إمكانية وليست واقعاً. وبدلاً من أن تضيع الطاقة في الفعل الرمزي تنفق في تحقيق الفعل.

 ولما كانت الهوية هي الماهية فإن الوجود يسبق الماهية وليس كما هو الحال عند الفلاسفة المثاليين أن الماهية تسبق الوجود. ولا تعني الأسبقية في الزمان أي الأسبقية في الوجود. الماهية تتخلق في الوجود. يصنعها الوجود ثم يحققها بعد أن تكتمل في جدل مستمر بين الوجود والماهية. والماهية هي الحرية، والهوية هي تحقيق هذه الماهية كفعل حر.

 وإذا اتضح الاغتراب الديني في علم العقائد على نحو تصوري ذهني فإنه يتضح أيضاً في التصوف على نحو عاطفي وجداني ذوقي. فقد عرف التصوف نفسه بأنه تخلٍّ عن الأوصاف الإنسانية. ويستعملون ثلاثة ألفاظ متشابهة الإيقاع: «التخلي والتحلي والتجلي». يتخلى أولًا عن الصفات الإنسانية، ثم يتحلى بصفات هوية خارج العالم بعد أن يفرغ الصوفي من هويته ويتخلى عن عالمه. ويتجه إلى أعلى. ويرقى في المقامات والأحوال حتى ينتقل من البقاء إلى الفناء. وهي هوية مملوءة من خارجها. ليس من ذاتها بعد أن أفرغت العالم منها. وحولتها إلى خيال يُنشد شعراً، ويعبر عن لوعة الحبيب. ويعود البعض إلى العالم من جديد تائهاً غائباً لما كان فيه. قد يحسبها البعض هوية صورية فارغة. فالصفي أقرب إلى السكون منه إلى الحركة، وإلى الصمت أقرب منه إلى الكلام.

ويقع الاغتراب أيضاً في صلة الإنسان بالنص. فبدلا من أن يكون النص في صالح الإنسان يصبح الإنسان في صالح النص. تصبح الهوية نصية. ولما كان النص سلطة تصبح الهوية سلطوية باسم النص. ولما كان النص عرضة للتأويلات المختلفة، وكانت التأويلات طبقاً للمصالح والأهواء نتج صراع الهويات. ولما كانت النصوص موضوعاً للاختيار والانتقاء طبقاً للآراء المسبقة والمواقف الاجتماعية والسياسية نشأت الفرق والطوائف، كل فريق أو طائفة تنتقي من النصوص ما يوافق هواها وموقفها الاجتماعي والسياسي. فبدلا من أن تكون الهوية عاملا تجميعياً لاستنادها إلى نسق عام للقيم تصبح عنصر تفريق. وتنقسم الهوية العامة إلى هويات خاصة. وتضيع أهم صفة للهوية وهي العموم أو الشمول، تستند إلى المعقول وليس إلى المنقول، وتقوم على العقل وليس النص.

 وتصبح الهوية صورية شكلية إذا ما قدم الشكل على المضمون، والمظاهر على الجواهر مما يؤدي أحياناً إلى النفاق عندما يصبح المظهر دون مخبر، والظاهر دون باطن، والخارج دون داخل، والفعل دون نية، أو بنية مغايرة. والفعل ليس مقصوداً لذاته بل للنية التي وراءه. والعبادة ليست مقصودة لذاتها فإن الله غني عن العالمين بل للمصلحة الفردية والاجتماعية وراءها. فالأحكام مقاصد. وقد تكثر العبادات وتقل المعاملات. وقد يتم التسابق في بناء المساجد دون المدارس والمستشفيات. ويحدث التوتر بل أحياناً الصراع بين الطوائف سباقاً على بناء دور العبادة. أكثر أو أقل أو في مكان الصدارة أو في الخلفية. وقد ترفع الأصوات للنداء على الصلاة في المآذن أو الكنائس، بالآذان أو قرع الأجراس، والأعلى هو الأفضل.

 وقد تنفجر الهوية ضد التغريب وكل مظاهر التحديث. فتتمسك بأكثر الأشكال والرموز تشدداً كالنقاب للمرأة، والفصل بين الرجال والنساء، ومنع قيادة السيارات، والسياحة.

 وإذا كان الحكم الشرعي يتغير بتغير الزمان كلما تغير الزمان تغير الحكم من الأخف إلى الأثقل أو من الأثقل إلى الأخف، وهو النسخ فكيف يقلب الإنسان النص ويطلقه ويجعله مطلقاً خارج الزمان، ثابتاً لا يتغير، مهما تغير الزمان؟ تعظيم وتقديس وتمجيد للنص بإخراجه خارج الزمان والمكان هو اغتراب له وقضاء على الهوية الإنسانية المتفاعلة مع الوجود الإنساني. والنص الديني نزل بلغة معينة، اللغة العربية، في ثقافة معينة، الثقافة العربية، وفي بيئة وأعراف معينة، البيئة والأعراف العربية، وفي إطار حضاري معين، فكيف يفهم خارج السياق؟ هذا كله اغتراب معرفي وسلوكي يقضي على الهوية النظرية والعملية للوجود الإنساني.

 والهوية هي تطابق الحاضر مع الحاضر، عيش اللحظة الراهنة، الإدراك المباشر للنفس، والرؤية المباشرة للواقع. هي تفاعل مع اللحظة التي هي انتقال من الماضي إلى الحاضر. أما التطابق مع الماضي فهو الماضوية بعينها التي ترى روحها ووجودها في لحظة ماضية بعد أن تغترب عن الحاضر. كقول البعض: لم يترك القدماء للمحدثين شيئاً. وهو الغالب على المجتمع الإسلامي في مجمله حالياً نظراً لبعد المسافة بين الحاضر عن الماضي، وصعوبة التحقق مع الحاضر بالفعل. وسهولة التحقق مع الماضي بالخيال. وفي كلتا الحالتين الهوية اغتراب، اغتراب اليائسين واغتراب الحالمين. والمتفائلون بينهما أقرب إلى التحقق منهم إلى الإحباط. العجز عن التفاعل مع الحاضر يولد الإحباط. وتعويض الحاضر السالب بالمستقبل الموجب قفز إليه وعدم تحديد مسار له.

وكما يكون الهروب إلى الماضي يكون القفز إلى المستقبل في صور المعاد وأساطير فتن آخر الزمان. فالموت ليست له الكلمة الأخيرة. والظلم مؤقت في الحياة الدنيا. والشر عابر سبيل وإن بدا منتصراً ودائماً. هو نوع من ميتافيزيقا الأمل التي تكون لها الغلبة على واقع اليأس والإحباط. وتبدأ كل صور ثنائيات الخير والشر.

 لذلك كانت الهوية هي التاريخ، والتطابق مع التاريخ، ومعرفة في أي مرحلة من التاريخ تعيش الأمة. فلا تعيش مرحلة مضت. ولا تعيش مرحلة قادمة. ولا تتوقف عن السير في المرحلة الراهنة انتظاراً لمسار الصدف ومفاجآت التاريخ. ليست الهوية حقيقة مجردة ثابتة دائمة صورية كما يظن الفلاسفة المثاليون بل هي من صنع الأفراد والشعوب، هوية تاريخية.