الانقسام مرة أخرى ...بقلم:د.عاطف أبو سيف

الانقسام مرة أخرى ...بقلم:د.عاطف أبو سيف
الانقسام مرة أخرى ...بقلم:د.عاطف أبو سيف

تبدو حكاية الانقسام مثل حبكات المسلسلات التركية تصل لذروة التأزيم ومن ثم الحل، وبعد ذلك من قلب الحل تخرج مشكلة جديدة، كل ذلك حتى يستمر المسلسلات سنوات وسنوات ويستمتع الجمهور بتضييع الوقت.
ولما كان الأمر ممكناً في عالم التلفاز لارتباطه اكثر بخيارات الناس حول وقتهم وتسليتهم، فإنه يبدو تضييعاً للوقت وللحقوق في الحالة الوطنية، إذ إن تلك السنوات تفرض على كاهل القضية والناس تبعات ونتائج كان يمكن لهم ان يتفادوها.
حتى في المسلسل التركي، فإن المشاهد يشعر بالملل كثيراً وهو يدرك كيف يقوم المخرج بافتعال الأزمات بسذاجة غير فنية من أجل ان يستمر العرض، فكيف يكون الحال في قضية وطنية كبرى؟!
مرة أخرة تعود ثنائية الانقسام والمصالحة للظهور في الخطاب السياسي والحزبي تحديداً، ويبدو تلويح حركة حماس بالعودة للانقسام ليس إلا مظهراً اخر من أوجه الانقسام ذاته. انا من الذين قالوا أن ما تم الاتفاق عليه في غزة ونجم عنه تشكيل حكومة التوافق لم يكن مصالحة، بل هو اتفاق اصطلاحي على تغير الوصف الذي يطلق على واقع ما. فالعلاقة الشائكة الملتبسة التي نجمت عن احداث حزيران 2007 الدموية التي اطاحت بها البندقية بالمصلحة الوطنية، لم يعد يشار إليها على أنها انقسام، بل هي مصالحة، ومصالحة نموذجية ربما.
وفق هذا الاتفاق الاصطلاحي كان يمكن للمتناقضات ان تعيش وللثنائيات أن تتجاور. مثلا يمكن ان يكون هناك وزير داخلية لا علاقة له بالأمن ولا بالشرطة، فهو لا يصدر القرارات ولا يعطي التعليمات، كما أنه لا يعرف من هم قادة الأجهزة التي هو مسؤولها بشكل مباشر، كما يمكن أن تظل الأجهزة الإدارية المدنية التي كانت قائمة قبل المصالحة وتستمر في عملها فيما يواصل الوزير في حكومة الوفاق عمله او الادعاء بانه وزير كلا الوزارتين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وصفة سحرية لكنها ليست بأكثر من تحايل على الواقع.
"حماس" أرادت ان تظل في الحكم وفي نفس الوقت لا تتحمل مسؤوليات هذا الحكم. فهي أرادت المصالحة دون أن يتغير شيء على أرض الواقع، مصالحة تتعايش مع الانقسام بل تكون الوجه الجميل له. وهي ثنائية لها جذورها في خطاب حماس السياسي والاعلامي. فحتى بعد تشكيلها للحكومة العاشرة وبعد ذلك الحادية عشرة إثر فوزها في انتخابات 2006 فإن حماس فصلت بين نفسها وبين السلطة وحاولت على المستوي اللفظي أن تجعل من حكومتها شيئاً بعيداً عن السلطة فخرجت بثنائية السلطة والحكومة، وكأن هذه الحكومة ليست حكومة السلطة، وكان جوازات سفر وزراء الحكومة ليست مدموغة بختم السلطة ولا بالاتفاقيات السياسية التي وقعتها.
وعليه فليس تهديد حماس بالعودة للانقسام إلا استكمالا لفهم قديم ،هو ما حكم هذا الخطاب، وهو ليس تهديدا بالمعني الكامل بقدر ما هو تلميح للعودة لقواعد اللعبة. لأن المصالحة كانت بحاجة لأكثر من ذلك، وكانت تستحق الحماية وليس المزيد من الخنق. فأي مصالحة كانت تستحق التضحية ودفع الثمن، إذ أن جوهر الأشياء يقوم على المقدرة على تحمل الالم الناجم عن تحقيق النفع العام، وليس البحث عن كيف يمكن للنفع العام أن يكون نفعاً حزبياً صرفاً. نحن أردنا مصالحة بلا ثمن وبلا ألم، وعليه جاءت مصالحتنا على مقاس الإنقسام ذاته، وامكن بسهولة تبديل الاوصاف على السياق ذاته ووصفه تارة بالمصالحة وتارة أخرى بالانقسام بسهولة.
أسوأ ما في هذا التفكير وهذا المنطق أنه يقدم غزة بوصفها عبئاً في الحكم وليست حالة وطنية. فالبعض حين يفكر في كيفية إدارة غزة بالعودة للإنقسام او بالتحالف مع جهات خارجية تجلب الأموال مثلاً وربما الدفء الإسرائيلي، فإنه يقر بان أساس المشكلة ليست في رسم تصورات مشتركة حول المستقبل، بل في كيفية إدارة غزة، التي أخرجها الإنقسام من السياق العام وصارت كياناً منفصلاً. حتى حين يتم التفكير بالتصعيد الإسرائيلي فإن التصعيد ضد غزة يتم التعامل معه منفصلاً عن التصعيد ضد الضفة الغربية. بالطبع مثل هذا التصرف له دلالات كبرى وخطيرة، لكنه يشكل استكمالاً لحالة الانقسام السابقة وفصل المصير.
يبدو اننا امام حلقات جديدة سيعود فيها الحديث عن الانقسام للسطح، ربما كانت أول مظاهره اختطاف عقيد في حرس الرئاسة يوم اول من أمس في غزة، والتراشق الاعلامي والتصورات الغريبة حول المستقبل. عموما فإن هذا الوضع بحاجة للمزيد من التفكير لاجراء عمليات جراحية للمصالحة المحققة من اجل حمايتها وليس تجميلها، بدلاً من التهديد والتلويح، حيث أن العودة بالأشياء إلى أصولها أفضل من الهرب للامام. والمواطن ربما لم يعد يفرق معه كثيراً ماذا يطلق على الواقع الذي يعيشه مصالحة أم انقسام، الذي يفرق معه هو جودة الواقع الذي يعيشه!!
وطالما ان الحديث يدور حول مسلسل فإن احداثه وحلقاته يمكن لها ان تستمر إلى ما لا نهاية، وبدون توقف، وقبل أن يتمكن المشاهد من التقاط انفاسه بعد جولة عنف مثيرة، ويظن أنها فرجت حتى تظهر أزمة أشد حدة وقسوة. في مثل هذه الحالات فإن الشعور بالملل وطنياً يقود إلى حالة من التراخي الوطني وعدم الاهتمام بالقضايا الوطنية ولا بالمصالح. نتيجة ذلك هي الرغبة الجامحة لدى الكثير من الشباب مثلاً في عدم الاهتمام بالسياسة. والنتيجة المباشرة لعمليات اللاتسييس هذه هو تجنب الشباب للعمل الحزبي والتنظيمي وتفريغ طاقاتهم السياسية في قضايا ثانوية تبدو لهم هي الحل والربط لأنها أكثر وضوحاً من عالم السياسة المعقد والملوث وغير المجدي أيضاً. أليست رغبة نسبة كبيرة من هؤلاء الشباب في الهجرة هي علامة فارقة في ذلك ونقطة كانت تحتاج وقتاً اكثر واهتماماً أكبر من النخب السياسة والنشطاء، فحين لا يبدو الوطن جميلاً، يكون أي شيء خارجه اجمل منه. أليس هذا ما فعله الانقسام بنا!