إسلاميو تونس: درس في الديمقراطية والموعظة الحسنة .. بقلم الدكتور أحمد يوسف

إسلاميو تونس: درس في الديمقراطية والموعظة الحسنة .. بقلم الدكتور أحمد يوسف
إسلاميو تونس: درس في الديمقراطية والموعظة الحسنة .. بقلم الدكتور أحمد يوسف

مقدمة

اليوم لا يمكننا كإسلاميين إلا أن نقف إجلالا لإخواننا في الحركة الإسلامية في تونس وعلى رأسهم رئيس الحركة ومؤسسها الشيخ راشد الغنوشي، لحكمة مواقفه وحُسن تصرفه وشجاعته في اتخاذ القرار، حيث أدرك بسرعة بديهته أن التآمر على الربيع العربي لم تقتصر عملية حبكه على دول غربية بعينها، بل ولغت فيه كذلك دولاً عربية، وقد تورطت أيضاً جهات إعلامية وعلمانية ورساميل البترودولار في عمليات التحريض والتشهير والتشويه لشيطنة الإسلاميين، وحرمانهم من أخذ دورهم في الحياة السياسية، بعد كل ما تمَّ من حراك شعبي أطاح ببعض رموز الفساد والاستبداد والدكتاتورية، وأعطى لبعض الحركات والتيارات الإسلامية مواقع متقدمة في صدارة مشهد الحكم والسياسة، الأمر الذي أزعج ممالك ومشيخيات المنطقة، والتي بدأت تتحسس مخاطر ما هو قادم من تهديدات تمس عروشها واستقرار ممالكها، فتحركت ضمن تفاهمات إقليمية ودولية لوقف هذا المدِّ الإسلامي، وإفشال تجارب من وصل منها حتى اللحظة للحكم.
لذلك، فإن ما وقع من أحداثٍ دامية في مصر بعد عزل الرئيس محمد مرسي، ودخول العسكر من جديد على خط الحكم والسياسة، كما أن عودة الساحة التونسية للتظاهر والاحتجاج والتمرد ومطالبات اسقاط الحكومة، أعطى الكثير من المؤشرات التي أدرك معها الشيخ راشد – بحدسه القيادي وفطنته السياسية - أن الوضع في تونس يمكن أن يأخذ مساراً مشابهاً لما وقع في مصر، ولكن - ربما - بصورة دراماتيكية مغايرة، خاصة وأن سطوة العلمانيين والإعلاميين هناك ما تزال قوية، ونفوذهم داخل مؤسسات الدولة العميقة مازال قائماً، وتداعيات الأوضاع المعيشية والاقتصادية الصعبة لا تبعث على الأمل القريب بإمكانية تجاوز محنتها.. لذا؛ فإن الاستمرار في الحكومة سيكون مدعاة لتحميل حركة النهضة تبعات كل الفشل في العجز عن تحقيق تطلعات الشارع الذي قاد الحراك الشعبي في 17 ديسمبر 2010م، وسجل أول انتصار كان محركاً لما جاء من بعد ذلك من ثورات ما يسمى بالربيع العربي.
جاء قرار الشيخ راشد بالخروج السريع والآمن من الحكومة وفق تفاهمات تمت مع شركائه في التُرويكا، وبترتيبات شاركت في صياغتها كل الأحزاب الليبرالية واليسارية والقومية ومؤسسات المجتمع المدني.
واليوم، ما تزال هذه التحركات التي سجلت اجتهادات متقدمة في السياسة والحكم موضع دراسة بين التيارات الإسلامية في المنطقة العربية كلها.
* راشد الغنوشي: الشيخ والأستاذ الذي عرفته
تعود معرفتي بالشيخ راشد الغنوشي إلى سنوات الدراسة في مصر نهاية السبعينيات، حيث كانت تصلنا مجلة (المعرفة) التونسية؛ لسان حال التيار الإسلامي في تونس، والتي كانت تمثل الإطلالة الفكرية لحركة الاتجاه الإسلامي التي تمَّ الإعلان عن تأسيسها في عام 1972م، وهي بمثابة العنوان الحركي لحركة الإخوان المسلمين هناك.. كنا نقرأ أفكار الشيخ راشد الغنوشي؛ مؤسس الحركة، وكذلك نائبه الشيخ عبد الفتاح مورو والأستاذ الحبيب المكني وآخرين من خلال تلك المجلة، والتي كانت تمثل فكر الاعتدال والوسطية.
في فبراير 1989م، غيَّرت الحركة اسمها إلى "حركة النهضة"، للتقيد بقانون الأحزاب الذي يمنع "إقامة أحزاب على أساس ديني"، إلا أن طلبها بالترخيص جوبه بالرفض من طرف السلطة، وفي 28 مايو 1989م، غادر الشيخ راشد الغنوشي البلاد في اتجاه الجزائر خشية الاعتقال مرة ثانية، وبعدها توجه إلى بريطانيا، حيث تمَّ منحه اللجوء السياسي هناك.
خلال زياراتي المتكررة إلى بريطانيا كنت أتوقف في لندن للالتقاء بالشيخ راشد الغنوشي؛ أحياناً كصحفي لإجراء مقابلة إعلامية معه، وأحياناً كخبير بشئون الحركة الإسلامية للتشاور حول بعض الأنشطة والأفكار الخاصة بعملنا الحركي في الغرب أو لتبادل الرأي في بعض القضايا التي تخص الشأن الفلسطيني الوطني والإسلامي.. في الحقيقة، كان الشيخ راشد الغنوشي بالنسبة لي أهم مرجعية فكرية إخوانية أشعر بالراحة خلال الحوار معها، لما يتمتع به من حنكة سياسية، وعمق في استيعاب مقاصد الشريعة والوعي بفقه المآلات، وأيضاً لإمكانياته وسعة اطلاعه في فهم السياسة الشرعية وربطها بواقعنا المعاش، والتي تميزت به مدرسة الطاهر بن عاشور في بلاد المغرب العربي.
كان الشيخ راشد الغنوشي له حضور دائم على صفحات المجلات التي كنا نصدرها كإسلاميين في بريطانيا وأمريكا، مثل: مجلة "فلسطين المسلمة" ومجلة "فلسطين الغد"، كما كانت له مشاركات في الأنشطة التي كنا نعقدها سنوياً في إجازة نهاية العام (Christmas Holiday)، حيث اعتادت رابطة الشباب المسلم العربي (MAYA) على استضافته لإلقاء محاضرات في التجمعات الإسلامية التي كانت تأتي من مختلف الولايات الأمريكية للتعارف وطلب المعرفة والتآخي في الله.. وأيضا، كنا ندعوه للمشاركة في المؤتمر السنوي للاتحاد الإسلامي لفلسطين (IAP) ورابطة فلسطين الإسلامية (ICP)؛ وهما مؤسستان للعمل الجماهيري لتعبئة وحشد الجاليات المسلمة في أمريكا لدعم القضية الفلسطينية، وتأييدها في المحافل السياسية والإعلامية الغربية.
كان الشيخ راشد من أكثر الدعاة الإسلاميين الذين لا تغيب فلسطين والمسجد الأقصى عن فكرهم الدعوي وتنظيراتهم الحركية، وله دراسات كنا نتداول قراءتها في هذا المجال، حيث كان يرى أن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، وأن واجب الوقت يفرض على الجميع نُصرتها والدفاع عن عروبتها وهويتها الإسلامية. لذلك، فإن صلتنا به - كفلسطينيين - لم تنقطع طوال وجوده في بلاد الغرب، وقد جمعتنا به الكثير من اللقاءات والحوارات الخاصة في مدينة شيكاغو وفي واشنطن، حيث إن أحاديثه وجلساته لا تُملُّ، والنقاش معه فيه إثراءٌ للعقل وتوسعة لمدارك الرؤية وفضاءات الحكمة والموعظة الحسنة.
إن الشيخ راشد الغنوشي هو أحد أعلام مدرسة الاعتدال والوسطية في الفكر الإسلامي الحركي على المستويين الإقليمي والدولي، وكان دائم القول: سنتعاطى مع الديمقراطية وسنشارك في الانتخابات، فإذا اختارنا الناخبون فسنعمل على أن نكون عند حسن ظنهم بنا، وإذا أخفقنا في تحقيق طموحاتهم في الأمن والعيش الكريم فمن حقهم الاعتراض.. ففي شأن السياسة، فإن الانتخابات هي الوسيلة التي ترفع أقواماً وتضع آخرين؛ فإذا لم نتمكن من الحصول بجدارة على ثقة المواطن بنا وبما نقوم به، فسنسلم السلطة ونعاود المحاولة من جديد من موقع المعارضة.. هذا الكلام وفي معناه الكثير كنا نسمعه أو نقرأه للشيخ راشد الغنوشي منذ التسعينيات.
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية يناير 2006م، وتشكيل الحكومة التي ترأسها الأخ إسماعيل هنية نهاية مارس من نفس العام، حيث عملت كمستشار سياسي له، الأمر الذي منحني الفرصة للسفر إلى عدة دول أوروبية من بينها بريطانيا للتحدث عن فكر حركة حماس ورؤيتها لشئون الحكم والسياسية.. وفي شهر نوفمبر 2006م، سافرت إلى بريطانيا في مهمة خاصة، وهناك التقيت الشيخ راشد الغنوشي وعددٍ من قيادات الإخوان المسلمين، حيث تبادلنا الحديث حول أداء الحكومة والصعوبات التي نواجهها في عملنا، بسبب المناكفات السياسية والفلتان الأمني والعدوان الإسرائيلي المتكرر على قطاع غزة، مما يربك عملنا الحكومي ويضعنا في دائرة اختبار صعبة.
وخلال النقاش أشار الشيخ راشد الغنوشي بأن هذه الأمور متوقعة وأن علينا الصبر ومعالجتها بحكمة وهدوء؛ لأن هناك الكثيرين ممن يتربصون بحركة حماس الدوائر، كما أن هناك من يمكرون بالحكومة ويعملون على إفشال برامجها وفرص نجاحها، لأن هذه التجربة السياسية الأولى لحركة حماس ستكون محطة مهمة في الحكم على أداء الإسلاميين سياسياً، وأن نجاح التجربة سيؤدي إلى تعزيز الثقة بأصحاب المشروع الإسلامي، وسيرفع من وتيرة النداءات التي تطالب بالإصلاح والتغيير بالمنطقة.. ولذا؛ فإن القضية تستدعي من حركة حماس اتخاذ أقصى درجات الحيطة والحذر بهدف تقديم نموذج رائد ومتميز في الحكم الرشيد.
بالطبع كانت هناك مداخلات أخرى ونصائح ولكنها كانت تصب في نقطة واحدة وهي التريث وعدم استدعاء المواجهة التي سيحاول البعض افتعالها بتواطؤ مع آخرين بالمنطقة للقضاء على فرصة الإسلاميين في الظهور بالمشهد الذي تنتظره شعوب المنطقة من حيث تحقيق الأمن والأمان وكرامة العيش والاستقرار. 
بعد موجات الربيع العربي، التقيت الشيخ راشد الغنوشي في استانبول عام 2010م، وذلك في أول ملتقى عقدته رئاسة الوزراء التركية لدراسة التحولات الجارية باسم الربيع العربي في بعض الدول العربية، وقد شارك في المؤتمر حوالي ستين شخصية إسلامية، فكرية وسياسية، من كل الدول التي شهدت حراكاً شعبياً وخاصة من مصر وتونس، إضافة لعدد من الشخصيات من أمريكا وأوروبا ولبنان وفلسطين.. وقد جمعنا عشاء عمل مع وزير الخارجية د. أحمد داود أوغلو والذي أشاد بالتجربة التونسية وبالشيخ راشد الغنوشي، واعتبره صاحب فضل من خلال كتاباته التي استفاد منها كثيراً الإخوة في حزب العدالة والتنمية في تركيا.. في ذلك اللقاء والذي جرت بعض وقائعه في قصر (دولما باتشي)، كانت الفرصة مواتية لنا جميعاً أن نتحدث ونناقش تلك التحولات، وأن نتواصى خيراً حتى لا تنحرف البوصلة ونضل الطريق.. كان للشيخ راشد الغنوشي إشعاعاته الفكرية في ذلك المؤتمر، حيث أكد على المفاهيم التي طالما نادى بها وهي تعزيز العملية الديمقراطية وما تعنيه من فضاءات التعددية السياسية واحترام خيارات الناخبين من خلال الصندوق والتداول السلمي للسلطة، واحترام حقوق الإنسان.
وفي لقاءٍ آخر جمعنا في العاصمة التونسية خلال شهر يونيه 2012م تحت مظلة "اللقاء الإسلامي الأوروبي"، والذي شارك فيه حوالي ستين شخصية ضمت قيادات إسلامية حركية ومفكرين وسياسيين أوروبيين وأمريكان، حيث تناولت جلسات الحوار والمداخلات فرص الاستقرار والتمكين لأنظمة الربيع العربي، ومستقبل العلاقة مع الغرب.. لقد استفتح الشيخ راشد ذلك الملتقى وتحدث - بتفاؤل - عن تجربة الحكم في تونس، وعن شكل الشراكة السياسية القائمة تحت مظلة الترويكا، وأشار إلى ما هو مطلوب من الدول الغربية، وخاصة أوروبا لدعم تلك الثورات، واعطاء مصداقية للدعوات التي يرددونها بأنهم مع خيارات الشعوب، وأنهم مع نشر الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.. إن الكرة اليوم – كما ذكر الشيخ – هي في ملعب الغرب لطي صفحة الماضي المعادي للإسلاميين، والعمل على فتح صفحة جديدة من التنسيق والتعاون على قاعدة الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة. 
وفي طريق عودتنا من تونس إلى القاهرة، وجدت نفسي على بُعد مقعدين في الطائرة خلف الشيخ راشد الغنوشي، حيث كان الرجل بقامته الكبيرة يجلس في الدرجة السياحية (Economy Class) مع باقي خلق الله الغلبانين، وقد عرض عليه أكثر من شخص جالس في الدرجة الأولى الممتازة (First Class) أن يأتي لأخذ مكانه، لكنه رفض - بأدب كريم - وشكر الجميع.. ذهبت إليه بعد أن أدركت طبيعة زيارته للقاهرة، حيث كان قاصداً إلى هناك للالتقاء بالإخوة في مكتب الإرشاد بالقاهرة، فانتهزتها فرصة وهمست في أذنه أن ينصح إخواننا في مصر أن يتوخوا الحذر، وألا يُستدرجوا لحمل عبء الحكم وحدهم، وأن عليهم أن لا يكرروا تجربتنا في الحكم، حتى لا يتربص بهم كل من في الشرق والغرب بهدف العمل على إفشالها، فالحركات الإسلامية ما تزال ملاحقة وغير مرغوب فيها، ونحتاج جميعاً أن نتعلم درس الإسلاميين في تركيا ونقتفي أثر حكمة وذكاء إخواننا في حزب العدالة والتنمية هناك؛ من حيث الانفتاح السياسي والتدرج في الخطوات، وتجنب الصدام مع العسكر، والعمل على كسب الشارع، وتحييد الخصوم واستيعاب الجميع، وبناء شراكة سياسية مع الأخرين من الليبراليين واليساريين والقوميين.
وجه النصيحة الذي تحدثنا به هو ما كان ما يدور في ذهن صاحب البصر والبصيرة الإسلامي المخضرم الشيخ راشد الغنوشي، وما ذكرناه عن تجربتنا كإسلاميين في فلسطين سبق وأن قلناه أيضاً لإخواننا في مصر، ولكن - للأسف – ليس دائماً تؤتي النصيحة أُكلها؛ لأن البعض يعتقد بأن ظروفه تختلف، وأن لديه الحكمة لعدم تكرار أخطاء الآخرين، ويمتلك الوعي والدراية لتجنب الوقوع فيها. 
انتخابات ما بعد الثورة: الإسلاميون في الصدارة 
على إثر الإعلان عن نتائج انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التونسي في أكتوبر 2011م، حيث فازت حركة النهضة بـ89 مقعداً من أصل 217 أي حوالي 42% من المقاعد، ودخلت في ائتلاف حاكم (الترويكا) مع "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" و"حزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات". 
حاولت حركة النهضة أن تكون أيقونة الربيع العربي بتجربتها السياسية في ممارسة أسلوب الحكم الرشيد في تونس.. ولذلك، كانت في رؤيتها لمستقبل البلاد تتطلع لبناء نموذج في الحكم يحاكي تجارب إسلامية ناجحة ومتألقة في المنطقة الشرق أوسطية، مثل النموذج التركي والماليزي؛ نماذج تجمع بين الإسلام والحداثة.
وفي بيانها التأسيسي ذكرت النهضة في الفصل الأول أنها ذات مرجعية إسلامية، وأنها تسعى إلى "النضال من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي كخطوة باتجاه تحقيق الوحدة العربية فالوحدة الإسلامية وتحرير فلسطين".
الإسلاميون والحكم: جدلية القول والعمل 
بالرغم من أن الفترة التي وصل فيها الإسلاميون للحكم في تونس ما تزال مرحلة انتقالية، وغير كافية للحكم على مدى قدرة الإسلاميين في الوصول بالبلاد إلى مستوى طموحات الشارع وتوقعاته في عيش كريم وحياة آمنة مطمئنة، فإن ردات فعل الشارع الغاضبة دفعت الإسلاميين في حزب النهضة لمراجعة حساباتهم وإبداء استعدادهم للتخلي عن السلطة، حفاظاً على البلاد أن تنجر إلى متاهات الصراع الدامي الذي شوهدت مصارع الناس فيه بالألاف في سوريا، وبدرجة أقل في مصر.
وفي محاولته لشرح أبعاد القرار الذي اتخذته حركة النهضة للخروج من الحكومة، كتب الشيخ راشد الغنوشي مقالاً بعنوان: "هذا يوم آخر من أيام تونس"،وقد ارتأيت أن أقتبس منه ما يمكن اعتباره قراءة تفسيرية للقرار، حيث أشار إلى ذلك بالقول: نجحنا والحمد لله، لأننا أدركنا؛
أولاً) أن الحل في التوافق بدل المغالبة؛ ففي الديمقراطيات المستقرة يكفي حزباً ليحكم الحصول على الأغلبية المطلقة (50+1) أما في الأوضاع الانتقالية مثل التي حال دول الربيع العربي فإن ذلك غير كاف، بل المطلوب ليس فقط أغلبية واسعة تصل إلى الثلثين وتقترب من الإجماع، وإنما تنوع تلك الأغلبية وتمثيلها لأهم التيارات السياسية والفكرية.
ثانياً) أن أَقوم السبل لمواجهة أخطار الفوضى والعنف وتحديات الدولة العميقة، والتوصل إلى وفاقات، هو التأسيس للحوار نهجاً وسبيلاً لا بديل عنه، والتسلح بالصبر لمواصلة حبل الحوار وعقد العزم على رفض قطع حبله، حواراً لا يستثني طرفاً من الفاعلين السياسيين.
ثالثاً) أن الاستعداد لتقديم التنازلات من كل الأطراف بعضها لبعض، وخصوصاً من قبل الأطراف أو الطرف الأقوى المفترض فيه أن يقوم بدور كبير العائلة أي الأحرص على سلامتها ووحدتها ومصالحها ورقيها وحمايتها من الأخطار، ذلك هو السبيل الأقوَّم لإشاعة ولو قدر يسير من مناخات الثقة بين المتحاورين، الذين عادة ما تكون صراعاتهم التاريخية قد أورثتهم ركاماً هائلاً من العداوات والشكوك وتربص كل طرف بالآخر، ورغبته الجامحة في النيل منه وتسجيل أهداف على حسابه.
رابعاً) أن للمجتمع المدني دوراً في تخفيف الاحتقان وتقريب الشقة بين السياسيين؛ فمن خصوصيات النموذج التونسي للتحول الديمقراطي الدور الذي نهض به المجتمع المدني سواء في الثورة أو في مرحلة التحول الديمقراطي الجارية، وذلك على صعيد تيسير الحوار بين الأطراف السياسية المتنازعة.
خامساً) أن الجميع رابحون؛ حيث لا يمكن أن ينجح حوار في مناخات مدلهمة بالشكوك وانعدام الثقة بين الأطراف المتنازعة، واعتماد خطاب سياسي وإعلامي يشيطن الآخر ويحرض عليه ويسعى جاهدا لإقصائه وتدميره، لا يمكن لحوار في مثل هذه المناخات أن يفضي إلى وفاقات مشتركة وقادرة على الصمود ما لم يشعر الجميع بوجود الأزمة وخطرها على الجميع وعلى الكيان الوطني.
ومن الجدير ذكره، أن هذه مجموعة من النقاط التي تشكل للشيخ راشد الغنوشي اختبار المصداقية، والذي نجح فيه بامتياز، حيث أكد أن فعله يتطابق مع قوله الذي طالما نادى به.. وهذا ما يتوجب أن يضعه الإسلاميون في حساباتهم عند تصدر مشهد الحكم والسياسة، فالرؤية التي تحمل معنى التفرد وتهميش الآخر واقصائه ليست حالة جامعة، بل هي وصفة للاصطفافات القاتلة، كما هي هتك للنسيج المجتمعي وتفريق للصفوف، وفتح الباب للمكر السيء والتحريض، مما يجعل قدرتنا على تسجيل انتصار على طريق ذات الشوكة أمراً بالغ الصعوبة، وأملاً دونه خرط القتاد.
ولعلي هنا أيضاً أقتبس من مقال للباحث الفلسطيني الأستاذ خالد الحروب، والذي حاول من خلال مقال له بعنوان: "تونس: عبقرية التوافق وروح خير الدين باشا" توصيف ما جرى في حلبة التجربة التونسية، قائلاً: "التجربة التونسية تنتزع الإعجاب في وسط عواصف الفشل العربي والإقصاء والتشنج والدم المُراق في التجارب المشرقية، والتي أحالت ربيعها إلى خريف باهت.. إن الفرادة الكبيرة والمُلهمة في التجربة التونسية تكمن في عبقرية التوافق وكبح جماح شبق وشهوة الاستئثار بالسلطة أو القرار.. لم يتم ذلك من خلال مسيرة هادئة ووئيدة، بل على العكس كانت صاخبة، ومتوترة، وشهدت فصولا صعبة، جرتها إلى حواف الهاوية في أكثر من مفصل زمني".
ويضيف: "هنا بالضبط تكمن إحدى فضائل الديمقراطية، وهي التمرين الصعب والمرير والمديد على الحوار والتنازل للأطراف الوطنية الأخرى، للوصول إلى المساحات المشتركة الوسطى، حيث يلتقي الجميع أو معظمهم على قاعدة المشاركة بالحكم وليس الاستئثار به". 
لقد نجح الشيخ الغنوشي في توفير مسار آمن للخروج من الحكومة والتوصل لتفاهمات حول خارطة الطريق التي ستضبط إيقاع المرحلة القادمة والتي ستديرها حكومة من التكنوقراط، خرجت من رحم التوافق الوطني وبرضا حركة النهضة التي تمثل الأغلبية في البرلمان، وتمَّ النظر إلى ما جرى التوافق عليه باعتباره كسباً للجميع، وانتصاراً للوطن، وقطعاً لدابر الفتنة ولكل المتربصين باستقرار البلاد وأمنها.
إسلاميو تونس: مدرسة في الانفتاح واستيعاب الآخر
ومن الجدير ذكره، أن الشيخ راشد الغنوشي وحركة النهضة الوعاء الناظم للتيار الإسلامي في تونس هما في الحقيقة مدرسةٌ في الاعتدال والوسطية، والتي يتوجب على الإسلاميين ضبط معايرهم الشرعية والسياسية والتربوية والحركية على مقاسات تلك التجربة/المدرسة، وكذلك ما شاهدناه من حكمة وبلاغة في الأداء السياسي لإخواننا في حركة التوحيد والإصلاح المغربية؛ وذراعهم السياسي حزب العدالة والتنمية، وسبقهم أيضاً إخواننا في تركيا، حيث ما يزال السيد رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية (AK Party) هو في صدارة تجارب الحكم في المنطقة، والكل يتطلع لهذا النموذج بدرجة عالية من التقدير والاحترام.
لقد أعجبني كذلك الشيخ راشد في رده على من حاولوا إظهار خروج حزب النهضة من الحكومة تحت وطأة الضغط الشعبي وكأنه حالة سقوط ونهاية مشوار للإسلاميين في تونس، بالقول: "الحديث عن سقوط النهضة كلام لا يستقيم؛ لأن الحركة على فرض خرجت من الحكومة، فإنها لم تخرج من الحكم، لأنه أكثر اتساعاً من الحكومة، إذ أن الحكم في تونس هو برلماني، أو شبه نيابي، بمعنى أن مركز الحكم فيه هو البرلمان، والمجلس الوطني التأسيسي، حيث تمثل النهضة الكتلة الأكبر في البرلمان.. ولذلك، فالسلطة بكل تنوعاتها تمر عبر النهضة في الوقت الحالي، وللتأكيد على ذلك فإنه عندما استقال علي العريض، فإن رئيس الجمهورية، وبحسب القانون دعا رئيس حركة النهضة باعتبارها تمثل الكتلة الأكبر في البرلمان، وقدم له طلبا مكتوباً، حتى نقدم مرشحاً لرئاسة الحكومة، وبالفعل قمنا بترشيح مهدي جمعة، باعتباره هو مرشح التوافق الوطني أو الحوار الوطني، ونحن جزء منه وسندعمه إن شاء الله ونتعاون معه لإنجاح المسار الديمقراطي".
وأوضح الشيخ راشد الغنوشي، بالقول: "إن حركة النهضة اعتمدت مرشح الحوار الوطني، لأنها جزء منه، وقدمته لرئيس الجمهورية، وفقاً لما ينص عليه القانون، باعتبار أن الحوار الوطني لم يحل محل النهضة، وظلت كما هي؛ باعتبار أنها صاحبة الكتلة الأكبر في البرلمان، التي تقدم، ولكن في هذه المرة قدمته باسم الحوار الوطني، التي هي جزء منه، حيث إن الحكم لايزال يمر عبر النهضة، والحكم في بلادنا، هو أشبه بالحكم البرلماني، ومركز السلطة فيه البرلمان، وبالتالي فإن النهضة لاتزال العنصر الأساسي في هذا الحكم.. وثانيا، فإن رئيس الحكومة المكلف، الذي رشحته النهضة، ورشحه الوفاق الوطني، سيشكل حكومته بحرية، ثم يذهب بها إلى المجلس الوطني التأسيسي، حيث أن هذه الحكومة لن تمر إلا بموافقة حركتنا، لأنها صاحبة الكتلة الأكبر، وبالتالي فإن هذه الحكومة، لاتزال تحت رقابة البرلمان، ولكن بطبيعة الحال فإن هذه الحكومة التي أنتجها الوفاق الوطني، ووافقت عليها النهضة، وقدمت رئيسها إلى رئيس الدولة لكي يعتمده، لذا لن نكون عقبة في طريقها وعرقلتها، لأنها ليست حكومة المعارضة، ولا النهضة، ولكنها حكومة وفاق وطني، ولهذا سوف ندعمها، باعتبار أنها ستقود البلاد نحو المحطة النهائية.. نحو مرفأ السلام".
وفي مقابلة أجرتها معه صحيفة الدستور الأردنية بتاريخ 23 ديسمبر 2013م، أشار الشيخ راشد الغنوشي إلى وجود أخطاء في الممارسة يرتكبها الإسلاميون، وقال: "ونحن ارتكبنا أخطاء في تاريخنا، لذلك في تقليدنا هناك وقفات تقييمية مستمرة.. وأضاف: إن معظم معارك الإسلاميين تعود لسوء تقدير الموقف وضعف الاستبصار والتشخيص. فبينما نحن مكلفون شرعياً بما تسمح به موازين القوى، والتكليف هو بشرط الوسع والطاقة، والله تعالى يقول: «وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ» ولم يأمرنا الله أن نكلف النفس بما لا تطيق، ولذلك النهضة كان عليها أن تتنازل عن بعض المكاسب عندما رأت أن موازين القوى تفرض ذلك، وهي التي دفعتنا على أن لا نكوّن حكومة للنهضة وحدها، لذلك حرصنا على مشاركة التيار العلماني المعتدل مع أنه كان يمكن أن نشكل حكومة خاصة بالإسلاميين، وعندما تغيرت موازين القوى مع اغتيال شكري بلعيد وجدنا أن التوازن افضل، فتنازلنا عن وزارة السيادة واعتدل الميزان، ثم جاء اغتيال ثاني وأحدث خللاً هائلاً بالميزان وكانت رياح المشرق- انقلاب مصر- قد رفعت سقف مطالب الخصوم، فلم نذهب للمواجهة وقبلنا التنازل لصالح حكومة محايدة، فجرى التنازل عن الحكومة وبقى حضورنا بالمجالس ومنها البرلمان، ويمكن أن نتراجع لكن المهم بقاء طريق التقدم مفتوحاً وطريق التقدم هو الحرية."
ختاماً: ولنا في تونس عظة وعبرة 

أتمنى في ساحتنا السياسية أن تسود مثل هذه اللغة والنبرة من الحكمة وبُعد النظر في التعاطي مع ملفات الخلاف والتنافس القائمة بين فصائلنا وتياراتنا الحزبية بخلف