الضحك في زمن البكاء-- بقلم: عبد العزيز المقالح

الضحك في زمن البكاء-- بقلم: عبد العزيز المقالح
الضحك في زمن البكاء-- بقلم: عبد العزيز المقالح

يستمد هذا الحديث عنوانه من المقولة المتداولة “شر البلية ما يضحك” وهي تشير بوضوح إلى أن الضحك المصاحب للمواقف الفاجعة والمستفزّة يحل محل البكاء وقد يكون أحياناً أكثر تعبيراً وإفصاحاً من البكاء نفسه، وأكثر قدرة على نقل ما تمور به النفوس البشرية من مواجع وهموم ثقال . ولا أظن أن زمناً قد مر بالأمة العربية يشبه من قريب أو بعيد الزمن الراهن وما يبعثه من الضحك الباكي أو البكاء الضاحك .

إنه زمن تهاوى فيه كل شيء جميل، وصعد على أنقاضه كل شيء قبيح ابتداءً من المحبة التي اختفت وتكاد تتلاشى بعد أن كانت سائدة بين كل أبناء الأمة العربية فضلاً عن أبناء القطر الواحد وتحولت في الغالب إلى كراهية سوداء يروّج لها بعض الساسة الباحثين عن أمجاد رخيصة بأقل التكاليف وأسوأ السبل . كما اختفت وتكاد تتلاشى أناشيد الوحدة ليحل محلها صراخ محموم يدعو إلى التشرذم والعودة إلى المفاهيم القروية والانكفاء المناطقي في تحدٍ سافر للعقل والمنطق ومبادئ التفكير السليم .

ومن الواضح أن زمن البكاء الراهن قد ترك بصمته المخيفة على حياتنا جميعاً، ولا نستطيع أن نستثني أحداً، حاكماً كان أو محكوماً، غنياً أو فقيراً، عالماً أو جاهلاً، فالمحنة التي تمر بها الأمة مع نفسها ومن قِبَل أعدائها مذهلة ومحيرة، وبعد أن عمّت الجميع وفتحت أبواب الهم الفائض على جميع القلوب بما فيها قلوب أولئك الذين كانوا يلتزمون موقف اللامبالاة فقد صاروا يدركون أن الواقع الذي هم جزء منه بات يقترب من حافة الهاوية، وأن العلاج لم يعد ممكناً وحين ترتفع الأصوات الضاحكة من هذا الوسط أو ذاك فإنها تحمل في ثناياها الكثير من الآهات والدموع، وليس بعيداً في مناخ كهذا أن تصاب القيادات الفكرية والسياسية بحالة من التبلد وغياب الرؤية الصحيحة وتصير مواقفها بلا معنى أو هدف مهما كابرت أو ادّعت غير ذلك .

وفي هذا الزمن، زمن البكاء، نستطيع أن نشاهد الهامات المحنية وأن نرى الإنسان العربي خصوصاً المثقف وهو يبدأ بالضحك أو بالأصح بالبكاء على نفسه أولاً، بعد أن يعترف بعجزه عن إثبات وجوده الإيجابي بوصفه كائناً حياً وشاهداً على عصره ومساهماً في تطوير محيطه، ولا غرابة في مناخ كهذا أن يستبدّ به الشعور بالألم وأن يصطدم بعبثية الواقع ثم بهذا الكم الهائل من الخصومات والخلافات، وفشل الوصول إلى شواطئ الطمأنينة والأمان، وما يتبع ذلك من مأساوية تدمير الذات .

ومن السهل الإدراك بأن ثمة فارقاً كبيراً بين ما كان عليه حال هذا الإنسان قبل عقود ثلاثة وحاله الآن . وما ينبغي التنبيه إليه أن هذه الذروة المخيبة للآمال لم تأت فجأة، وإنما هي وليدة تراكمات بلغت أقصى مدى لها بعد الإحساس بفشل الثورات العربية الأخيرة والمواقف المنحرفة التي تعتنقها النخب السياسية الحاكمة والنخب المعارضة التي تسعى إلى الحكم .

ولعل ما يستدعي التفكير بعيداً عن الضحك والبكاء معاً، قول بعضهم في تصنيف أخطاء المرحلة الراهنة أن هذا الذي يجري في الساحة العربية ما هو إلاّ تعبير عن فائض الأنانية وما تشيعه في الحياة السياسية والاجتماعية من ازدواجية صارخة تجعل الفرد في المجتمع العربي يفقد توازنه الأخلاقي والنفسي، ويتجاهل أهمية التعايش والتسامح وعلاقة ذلك كله بانخفاض منسوب الوعي والحرية . وأقصد بالحرية هنا تلك الحالة من الإحساس بالقدرة على الإبداع والمشاركة في التغيير، لا تلك الحالة الاستعراضية التي من شأنها أن تحول الحرية إلى قيمة سلبية مدمرة، وإلى دعوة للفوضى والإدانات الحادة الخالية من كل معنى إيجابي .