حماس … “السياسة الحلال” أوّلا!

حماس … “السياسة الحلال” أوّلا!
حماس … “السياسة الحلال” أوّلا!

حماس … “السياسة الحلال” أوّلا!

قبل عامٍ تقريبا، خرج الدكتور محمود الزهّار، القائد السياسي في حماس إلى الناس في غزّة، بلكنة لا ينقصها الحماس والإيمان، ليقول أنّ مقر المجلس التشريعي الفلسطيني في غزّة سيكون عاصمة الدولة الإسلاميّة الكبرى.الشبّان والصبايا الذين يريدون كسر الطوق الحمساوي على السياسة في غزّة لا يُمكنهم أن يأخذوا كلام الزهّار على محمل الجد. ليس لإدراكهم بأنّ مشروع الإسلام السياسي انكشف عن نزوع أصيل لوراثة “السُلطات” السابقة وإعادة إنتاجها مُجدّدا وتذخير عتادها بالرصاص والقمع الإسلامويّين، بل لأنّ المجلس التشريعي ذاته الذي يتحدّث عنه الزهّار هو المكان الوحيد الذي لا يستطيع أن يستحضره هؤلاء الشبّان دون أن يستحضروا معه صورة الهَراوة الحمساويّة وسماجة رجال شرطة حكومة غزّة الذين يطاردون ويفضّون بالقوّة أيّ عمل عام يستخدم المساحة المُطلّة على المجلس للاحتجاج العلني. فمن قمع دعوات عقد انتخابات تشريعيّة جديدة وقمع المسيرات المُطالبة بإنهاء الانقسام وصولالمنع الاحتجاج على مشروع “برافر” الاستيطاني في النقب، أصبحتْ ساحة المجلس التشريعي اختصارا لـ “دولة الزهّار” الصغرى التي يُمارس فيها العسس القمع ضدّ كل محاولة لتنفّس السياسة.

لا يُمكن للمرء أن يستغرب من قمع حماس للعمل العام في غزّة، فسلطويّة الإسلاميّين واستحداثهم لوسائل قمع جديدة وبعثهم الروح في أنماط الضبط والتحكّم السياسيّين والاجتماعيّين أصبحت كلّها سماتٌ واضحة في مقاربتهم لموضوع الحُكم والسلطة في أكثر من بلد. لكنّ الكثيرين يَحارون، بالتأكيد، في رغبة حماس الدؤوبة لمنع العمل العام الذي يتوسّم الاحتجاج على مشروعات إسرائيليّة مثل مشروع “برافر” بل وحتّى الاعتراض على المفاوضات التي شرع بها السيّد محمود عبّاس مؤخّرا وهي مشاريع ترفضها حماس بالتعريف كحركة مقاومة.

يُمكن فهم هذه الرغبة لمصادرة الحيّز السياسي من قِبل حماس، حتّى في وجه ما ترفضه هي ذاتها، ضمن المنظور الأشمل الذي يحكم عقليّة الإسلاميّين، وهو منظور يُلغي الفارق بين “الطائفة” الإخوانيّة والمجتمع ذاته كفضاء عام مفتوح لتفاعل الناس فيه وتدافعهم واختلافهم واعتراضهم على السلطة القائمة. في قلب التماهي هذا بين الجماعة والمجتمع، تنهض السياسة بوصفها ممارسة خاضعة بالأساس لمقتضيات هذا التماهي وتثبيته والتأكيد على أنّ الفعل السياسي هو، في النهاية، قرار أمير أو مسئول في الطائفة لا محصّلة تفاعل حرّ بين فاعلين اجتماعيّين وسياسيّين في الفضاء العام. هذه هي “السياسة الحلال” التي يدشّنها غالبا وصول الإسلاميّين للسلطة، وهي مع تمكّنها إمّا من خلال صندوق الاقتراع أو القمع بُمختلف أشكاله، ترسم حدودا فاصلة في الميدان السياسي بين مجموعتين: الملتزمون بفهم الطائفة الأخوانيّة للسياسة وبالتالي القابلين طواعيّة لأن يخضعوا لتوجيهات “ريموت كونترول” خفي قبل أن ينزلوا الشارع، وأولئك الذين يرون أن ممارسة السياسة وفعل الاحتجاج تُمليه أوّلا اعتبارات الواقع نفسه الذي يتحرّك ويموج يوميّا بمجموعة لا متناهية من القضايا ذات الصلة بحياة الناس ومستقبلهم. ومن المفارقة أنّ محاولة حمساويّين كسر حاجز “السياسة الحلال” الذي تفرضه حركتهم لن يلقى سوى القمع، فالانتماء لا يشفع لك أن تمارس السياسة من تلقاء نفسك، ولذلك ضاق أمن حماس ذرعابالاعتصام الذي دعا إليه ابن قائد حمساوّي شهيد ضد نظام الأسد ولم يسمح له بالاستمرار طويلا مثلا. ولتوكيد هذه السياسة، يخرج الإسلاميّون أنفسهم في كثير من الأحيان للاحتجاج على نتائج صنعتها سياساتهم الخاطئة، فهم يلعبون دور المعارضة والسلطة في آن معا (وأهل غزّة يعرفون هذه اللعبة جيّدا) لأنّه لا يسعهم أن يروا الناس في الشارع بدون أن يكونوا تحت إمرتهم. إنّهم يكرهون الشارع، فإمّا أن ينزل الناس معهم أو أن يتعرضوا للقمع.

على هذا الأساس يُمكن فهم الانشغال الحمساوي بميدان رابعة العدويّة حيث أنصار مُرسي المُتباكين على رئيسهم المخلوع، وبنفس المنطق يُمكن فهم انشغال الحركة الإسلاميّة في الداخل بمحاولة تعليق صورة مُرسي على جدران المسجد الأقصى وإدارة الظهر للاحتجاج على مشروع “برافر”. فالتماهي الحاصل بين الطائفة والمجتمع يُمكن أن يتوسّع ليصبح تماهيا بين الطائفة والأمّة، وبالتالي اعتبار موضوع مرسي أولى أولويّات الأمة، وانعقاد “السياسة الحلال”، بالضرورة، حوله.

جادلتُ وأجادل منذ صعود الإسلاميّين للسلطة في مصر وإعادة إنتاجهم لسياسة مبارك بحذافيرها أنّه يجب مواجهة “السياسة الحلال” التي يتبنّاها الإسلاميّون في كلّ مكان. لا يسعني إلا أن أكون “كافرا” في مواجهة حلالهم، لأنّه المقدمة لخنق السياسة بكل أشكالها وإعادة تفصيلها على مقاس وليّ الأمر والتأسيس لنظام قمعي. وفي بلادنا، تكتسب مهمّة مواجهة هذه السياسة، برأيي، أهميّة مُضاعفة، لأنّ قطع الطريق على السياسة يعني قطع الطريق إلى فلسطين. أكفر بحلالهم لأنّ كفري هو الطريق الوحيد لإعادة تصويب البوصلة تجاه مستقبل حرّ وأكثر كرامة لشعب يتحمّل بالإضافة للاحتلال كلّ الحواجز السلطويّة التي تريد أن تمنعه من الوصول إلى يوم التخلّص من كابوس سلطة إسرائيل العسكريّة.