محاولة للفهم ...محاولة للتغير-- بقلم: يحيى رباح

محاولة للفهم ...محاولة للتغير-- بقلم: يحيى رباح
محاولة للفهم ...محاولة للتغير-- بقلم: يحيى رباح

ما زالت ثورات الربيع العربي في حالة سيولة متدفقة، واكبر دليل على ذلك ان ثورات الربيع العربي تمتلك خاصية متميزة جدا وهي قدرتها الذاتية من داخلها على تجديد نفسها، بل وتطهير نفسها من الشرائح السياسية والحزبية والايديولوجية والاجتماعية التي حاولت ان تركب موجة هذه الثورات وان تركب ظهرها ايضا.

ككاتب ومراقب سياسي، وكمثقف فلسطيني وعربي بصفة عامة، اجد نفسي مهموما ومشغولا الى درجة عالية من الاستغراق في فهم ما يجري، وتحليله، ووضعه في صياغات قابلة للفهم، لأن هذه الصياغات القابلة للفهم هي المعادل الموضوعي لقدرتنا كنخب ثقافية وسياسية على ان نتغير وان نساهم في موجة التغيير الشاملة.

بطبيعة الحال: فان النموذج الاعلى، والاكثر عمقا، والاوسع امتدادا هو الثورة المصرية، لاسباب كثيرة ومتفق عليها كما اظن، ويتلخص معظمها في ان مصر هي الدولة الاكبر والاقدم في المنطقة وفي العالم، وان الشعب المصري تلاقح مع حضارات عديدة واثبت قدرة استثنائية على هضمها، وان دولته الحديثة هي اقدم نماذج الدولة الحديثة في المنطقة –اكثر من مئتي سنة – وان موضوع الدين الذي هو اهم مكونات هذه المنطقة له جذور مصرية، لأن فكرة التوحيد بكل هياكلها خرجت اصلا من مصر، وان مصر بموقعها العربي والافريقي والاسلامي يتحتم ان يكون لها دائما موقع ودور في المنطقة وفي العالم، وحين يتعطل هذا الدور لسبب او لاخر، فان هذا يكون وضعا شاذا وقلقا ومؤقتا سرعان ما يلتئم من جديد.

استطاعت الثورة المصرية التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير 2011 ان تطيح بنظام الرئيس مبارك، وادت تداخلات محلية واقليمية ودولية ان تمتطي صهوة الوضع جماعة الاخوان المسلمين، بصفتها الجماعة الايدلوجية السياسية الاقدم، والاكثر خبرة في التنظيم والحشد، والاكثر جراة على عقد صفقات مشبوهة تحت ستار الدين !!! وهكذا بعد سنة ونصف السنة من اندلاع الثورة استطاع الاخوان المسلمون ان يصلوا الى الحكم، ولكن بعد عام واحد ما بين الثلاثين من حزيران 2012 والثلاثين من حزيران 2013، جددت الثورة المصرية نفسها، وحشدت عواملها وعناصر قوتها الكامنة، واسقطت نظام الرئيس محمد مرسي، اي اسقطت نظام الاخوان المسلمين ونظام الاسلام السياسي بصفة عامة.
ما الذي حدث؟

ان كثيرا من المسلمات القديمة انهارت بشكل يدعو الى الرثاء، فلقد اتضح ان قدرة الاخوان على التنظيم والحشد الجماهيري ضعيفة للغاية، وان الوسائل التي كان يستخدمها الاخوان المسلمين لهذا الحشد هي وسائل عتيقة، متآكلة، بل مثيرة للسخرية في بعض الاحيان، مثل العزف على وتر الفقر والجوع، واستخدام الكتل الصماء «جماهير الارياف والعشوائيات» ووسائل الابتزاز الديني، واستخدام الاطفال والنساء كدروع بشرية، او منع المتظاهرين تحت التهديد من مغادرة اماكن التجمع كما يحدث في تقاطع رابعة العدوية، او استنفار التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، واستجداء المجازر، او حتى استعداء القوى الاجنبية، وهذا يعتبر احط درجات السقوط السياسي والاخلاقي. 

مسلماتنا القديمة عن الاخوان المسلمين انكشفت وانهارت تماما، اسقطتها تفاعلات الواقع، اسقطتها تطلعات الاجيال المصرية الجديدة التي امتلكت قدرة على التفاعل والتنظيم الميداني والسيطرة اكثر الف مرة مما كانت تعتقد الهياكل الحزبية القديمة، واسقطها الاعلام المصري الحديث -الاعلام الخاص الحر – بتقنياته الحديثة وبالطاقة الابداعية التي يمتلكها هذا الاعلام المصري الحديث، الذي اسقط دكتاتورية الاعلام المعادي.

الظاهرة الاخرى التي سقطت في تفاعلات الثورة المصرية هي النخب السياسية والثقافية التي تنزلق كالزيت في حالة من النفاق المكشوف للحصول على موقع ما، من خلال ما يسمى بدور الوسيط !!! هذه النخب السياسية والثقافية المائعة حاولت ان تتظاهر بالحكمة، بالخبرة، بحنكة الحياد بين اللاعبين الرئيسين !!!حاولت اعادة صياغة انفجارات الصراع وتفاعلاته الى نمطيات ذاوية، آفلة، مثل فكرة المصالحة التي بلا ملامح، وجمع الاضداد في طبق واحد تريده ان يكون شهيا، الجلاد والضحية، امل التنوير وعصر الظلام، الحق والباطل، لانها من خلال هذه الوساطة المائعة يمكن ان تحصل على ثمن البقاء !!! وهذا ما لم يعد ممكنا على الاطلاق.

بل ان بعض القوى الدولية الكبرى، حاولت ان تستل خناجرها القديمة وتلوح بها لتصبح هي المرجعية والحكم الوحيد، ولكن منابع الثورة المستمرة والمتدفقة التي تغذي نفسها من نفسها برؤى ومعايير جديدة، جعلت تلك القوى الدولية تبدو مترددة، متخبطة، مضطرة الان الى اعادة الحسابات !!! ولقد ادهشني كثيرا منطق محمود بدر احد ابرز قيادات حركة تمرد وهو ذاهب للقاء كاترن اشتون وهو يرتدي بنطلون جينز وبلوزة مخططة نصف كم، قائلا لها “نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا»!!! كلماته تم الاصغاء لها جيدا، ولم لا؟
اليس هو الذي اصبح له امتداد في حركات تمرد جديدة من غزة الى تونس؟ فلماذا لا يؤخذ كلامه على محمل الجد؟
ومن هو الذي يرغب ان يكون عدوا لعشرات الملايين، يزحفون في الشوارع، يقيمون الى جانب نهر النيل انهارا من البشر .