تغييرات جوهرية في نمط المواجهة-- بقلم: ناصر زيدان

تغييرات جوهرية في نمط المواجهة-- بقلم: ناصر زيدان
تغييرات جوهرية في نمط المواجهة-- بقلم: ناصر زيدان

غَلبت على النصف الأخير من القرن العشرين سِمَةُ المواجهة بين اليمين واليسار، واختبأت تحت شعارات كل من الفريقين، عناوين متعددة . فحمل اليسار العالمي شعار تحرير الشعوب من التدخلات الإمبريالية والاستعمار، بينما حمل اليمين فزّاعة التعددية والاقتصاد الحر لمحاربة أنظمة الحزب الواحد والاقتصاد المُنغلق في معاقل اليسار، وانشغلت ساحات العالم العربي بالصراع العربي - الإسرائيلي، وانقسمت القوى والدول على خلفية هذه المواجهة، بين مجموعتين، أقرب ما يقال فيها، إنها كانت تدور في فلك الانقسام الدولي .

ومع انحلال الثنائية القطبية في العام 1990 سلطت الولايات المتحدة الأمريكية (كقطبٍ وحيد) الأضواء على صراع من نوعٍ جديد، بين قوى الديمقراطية والقانون، وبين الإرهاب، والقوى التي ترتبط معه بصلات في ما سُمّيَ “محور الشر” . ودخل العالم العربي بحذرٍ شديد في سياق الصراع الجديد بهدف الحفاظ على الاستقرار، بل الحفاظ على الأنظمة، مع لفتة واضحة إلى مناصرة ظواهر المقاومة، خصوصاً في فلسطين ولبنان .

ومع بداية المرحلة الجديدة التي فرضتها الانتفاضات العربية منذ بداية العام 2011 توضحت معالم صراع جديد، وُلِدَ من رحم الحراك الشعبي، وفرض نفسه على المستوى الدولي، وليس فقط على الساحة العربية . عمادُ هذا الصراع تعددية قطبية تسودها الفوضى على المستوى العالمي، ومبارزة ساخنة في الساحة العربية، بين المعتدلين ومعهم أغلبية المجتمع المدني، وبين المُتشددين دينياً إلى حد التعصب الذين استفادوا إلى حدٍ بعيد من أخطاء السياسة الأمريكية، ومن التمدد الإيراني العشوائي في بعض الساحات العربية .

تونس التي انطلقت منها شرارة التغيير العربي تشهد مواجهة حامية - وصلت إلى حد استخدام الاغتيال الجسدي - بين التيار الإسلامي العريق، بقيادة راشد الغنوشي الذي تولى الحكم بواسطة الانتخابات، وبين النقابات العمالية، وخلفها المجتمع المدني الذي تقوده الأحزاب العلمانية، لمنع إقامة دولة دينية، رغم أن المجتمع التونسي برمتهِ مؤمِن، ويعتنق الإسلام ديناً حنيفاً . ومواجهة الساحات بين التيارين مالت كفة الغلبة فيها لمصلحة المعارضة المدنية، وذلك من جراء تراكم أخطاء المُتشددين الإسلاميين أو ما يُطلق عليهم تسمية “السلفيين”، من غير أن يكون معيار هذه التسمية دقيقاً، وهؤلاء يعيشون على حافة الانتعاش الإسلامي الذي رعته حركة الإخوان المسلمين على امتداد دول الانتفاضات العربية .

والفوضى المُخيفة التي تشهدها ليبيا، تخفي أيضاً صراعاً بين التطرف والاعتدال، وبين المدنيّة والتشدّد الذي وصل إلى حد اضطهاد بعض الأقباط المصريين الذين يعيشون في ليبيا منذ زمنٍ بعيد .

أما الحراك في اليمن، ورغم خصوصيته الجهوية، والمذهبية، والقبلية، فهو يخفي شيئاً من التباين بين قوى التطرف مدعومة من خلايا القاعدة ومن دول خارجية، وقوى الاعتدال التي تحترم قواعد التعددية، والتوجهات الليبرالية، والتسامح الديني . والتباين الذي أظهره اللواء إدريس قائد أركان الجيش السوري الحر مع توجهات “جبهة النصرة” وغيرها من المتطرفين في المعارضة السورية، يخفي شكلاً جديداً من أشكال الصراع المُنتظر في سوريا، وقبل أن تتبلور صورة المستقبل في هذا البلد “المنكوب” .

ولعل خلاصة الملامح الجديدة للصراع، تتجلى بأبهى صورها في مصر، فمظاهر التعصب الديني فاقت كل تصور، وانقلب مشهد الحراك من ثورة أطاحت حكماً متسلطاً ومُستبداً، إلى تنافر ديني استقدمه بعض المتطرفين، واشعلوا سجالاً مُخيفاً في الساحة المصرية، لم تشهده من قبل، خصوصاً بين الأغلبية الإسلامية والأقلية القبطية (المسيحية)، وبين بعض “السلفيين” وبين أعداد قليلة من الذين انتموا إلى المذهب الشيعي الاثني عشرية، وحصلت بعض الأعمال ضد هؤلاء، وضد بعض المسيحيين، لا تليق بمصر وبتاريخها التسامحي الناصع .

“والثورة الثانية” التي انطلقت ضد الرئيس محمد مرسي، تُجسد صورةً واضحة عن النمط الجديد من الصراع، بين النزعة المدنية التعددية من جهة، وبين حكم “الإخوان” ومعهم الجماعات الأصولية المتطرفة من جهةٍ ثانية . وقد أثبت المد الشعبي العارم لجبهة الإنقاذ التي تقود الحراك المدني، أن الأغلبية ليست مع قيادة الإخوان المسلمين للدولة، وأن التجربة التي عاشتها مصر خلال عام كامل من حكم مرسي أثبتت أنها غير قابلة للاستمرار . وسياسة الاستقطاب الإسلامي للفئات الفقيرة المُتديّنة لا تكفي لإرساء الحكم العادل، وقد بينت الأحداث أن بعض هؤلاء المُتدينين انقلبوا على حكم الإخوان، وساروا في مقدمة صفوف المعارضين للرئيس مرسي، وشعارهم تأمين لقمة العيش بكرامة، ورفض التسلط الذي استعاد قوته في قوالب جديدة .

إن التحركات الهائلة التي تشهدها دول الانتفاضات العربية، تؤكد أن تغييرات جوهرية جرت على نمط الصراع، وأن استغلال التعاطف الديني لا يكفي لاستقرار السلطة .