"بساط الريح".. حلم يراود المسافر الفلسطيني! عبد الله عيسى

"بساط الريح".. حلم يراود المسافر الفلسطيني!  عبد الله عيسى
"بساط الريح".. حلم يراود المسافر الفلسطيني! عبد الله عيسى

"بساط الريح".. حلم يراود المسافر الفلسطيني!

عبد الله عيسى

استعدت الشمس للغروب، واكتست عيناي بالإحمرار، وطفلتتي غرقت في النوم على المقعد المعدني متوسدة فخذي، وبينما كانت أناملي تلامس شعرها بقيت على أحر من الجمر انتظر قرار السماح لي بالسفر من إدارة الجوازات بمعبر رفح المصري بعد أن عرضت على ضابطين في المخابرات، وفجأة تسللت إلى أذني كلمات لأغنية مصرية مصدرها هاتف نقال لأحد المسافرين، "بساط الريح جميل ومريح وكلو أمان.. يا طاير فوق وكلّك ذوق.. بساط الريح قوام يا جميل أنا مشتاق لوادي النيل".

عندها تمنيت أن أملك هذه البساط الذي حمل الموسيقار "فريد الأطرش" من مصر إلى العديد من البلدان، لعله يحملني أمتارا قليلة تفصلني عن بوابة المعبر باتجاه مصر، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، إذ جاءني القرار الذي حطم "جناحي البساط"، حيث أبلغت بعد أن أوشك المعبر على إنتهاء عمله اليومي بعبارة "أنت مرجع"!.

فكلمة "مرجع" تعتبر بالنسبة للفلسطينيين من الكلمات التي لا يرغبون سماعها في الجانب المصري من معبر رفح، فالمسافر الفلسطيني الذي لم يبلغ سن الأربعين عاما، يجب أن يعرض على جهازي المخابرات وأمن الدولة المتواجدان في المعبر، وعندها يصبح مصير سفره بيد أفراد الأمن ومزاجهم وبرز ذلك مع نداء ضابط المخابرات على إحدى المسافرين وعندما لم يحضر قال باللهجة المصرية: "ما جاش يلا مرجع".

تنضم إلى هذه القائمة كلمة "مدرج" وتعني أن هذا الشخص اسمه مدرج في قائمة الممنوعين من السفر لـ"دواعي أمنية"، وهذه بمثابة "خط أحمر" تحرم الشخص "المدرج" من تجاوز المعبر المصري، وقد يمنع أحيانا من تأدية فريضة الحج، أوالعمرة.

وتعتبر زحزحة الجبال أهون من رفع الاسم من قائمة المدرجين، لكن هؤلاء استطاع عدد منهم السفر بعد أن تم التنسيق له مقابل مبلغ من المال يترواح مابين الألف إلى ثلاثة آلاف دولاراً لكل جولة من جولات السفر!.

أما كلمة "مرحل" فهذه أيضا من الكلمات التي لا يحب المسافر الفلسطيني سماعها لما لها من آثار "سيئة" عليهم، فالمرحلين هم أناس قصدوا مصر بغية الانتقال إلى دولة أخرى عبر مطار القاهرة، وهؤلاء يتم تجميعهم في صالة المعبر الى حين إنتهاء الدوام اليومي، ثم ينقلون في حافلات تحت رقابة الشرطة إلى غرف الترحيل في مطار القاهرة، ولن يخرج المرحلين من هذه الغرف إلا عند اقتراب موعد إقلاع الطائرة.

أما "غرف الترحيل" فسبق بأن وصفتها في إحدى خواطري بعد أن وضعت فيها أثناء عودتي من مطار جدة العام الماضي، بأنها "حفرة من حفر النار"، وبأنها "قذرة بل هي للقذارة عنوان" يشعر فيها المسافر بالذل والاضطهاد، بل يستغل في مأكله ومشربه، حيث لايسمح له بالتوجه للكفتيريا، ولا يستطيع ان يحصل على احتياجاته سوى من خلال عمال النظافة، الذين يأخذون "البقشيش" أضعاف مضاعفه من سعر السلعة الحقيقي.

ورغم الحديث منذ أكثر من عام عن إلغاء سياسة الترحيل للفلسطينيين إلا أن هذه الكلمات بقيت خبرا على أوراق الجرائد، بل عقب هذا القرار ازدادت معاناة المرحلين، ولم يعد يرافق المرحلين مندوباً عن السفارة الفلسطينية.

وإذا كان معبر رفح عنوانا للمأساة بالنسبة للفلسطينيين فإن مدينة رفح ذاتها لها حكاية مأساوية، بدأت مع بدايات القرن الماضي عندما قسمتها حدود إدارية وقعت بين الاحتلال البريطاني لمصر، والحكم التركي لفلسطين، ثم تحولت بعد اتفاقية كامب ديفيد إلى حدود سياسية مرسومة بأسلاك شائكة وجدران قسمت الأرض والإنسان، وخلفت معاناة إنسانية واجتماعية واقتصادية.

واليوم معبر رفح أسيرا لهذه الاتفاقية رغم انسحاب الاحتلال من غزة، واندلاع ثورات "الربيع العربي" من ليبيا لمصر وتونس واليمن وسوريا، بل أصبح كما يقول الزميل الصحفي معاذ العامودي ساخرا يغلق المعبر إذا طلَّق مصريٌ زوجته، أو إذا ارتفعت أسعار أطباق "الكُشَري" المصري (...).

ومع إغلاق المعبر تبرز مآسي "العالقين"، ولا نستطيع ان نحدد حجم هذه المأساة، التي تتسبب بتأخير علاج المرضى، وأصحاب الأعمال عن أعمالهم، وأصحاب تذاكر الطيران عن سفرياتهم، ناهيك عن الاستنزاف الاقتصادي للعالقين في الجانب المصري.

"احنا مكتوب علينا الغلب والنكد والتعب" لقد كان هذا لسان حال الفلسطينيين المدرجين والمرحلين والمرجعين في معبر رفح، ولم يقف على هذا الحد بل أثناء عودتنا في آخر حافلة للمرجعين صعد الى الحافلة شرطي مصري بلباسه الأبيض، وقال للسائق الفلسطيني باستهزاء عن المرجعين "دول 27 جواز، ولا 27 جثة"!.

ومع رفضنا للتعبير الصادر عن الشرطي المصري، إلا أننا أصبحنا حقيقة في حالة موت سريري، ومعبر رفح هو أجهزة التنفس الصناعي التي تساعدنا على البقاء على قيد الحياة مع العالم الخارجي، لكنه لا يقدم الرعاية الجيدة للفلسطينيين، وبسبب هذا الواقع لمعبر، صرخ أحد الشبان المرجعين أتمنى أن اصحوا يوما وأجد الأرض قد ابتلعت معبر رفح! عندها لن نسمع كلمة "مرجع" أو "مدرج" أو "مرحل".

وما بين منع غالبية الشباب الفلسطيني من السفر والترحيل والإدراج، يبقى الفلسطيني يحلم في أن يأتي قائدا قويا لمصر، ينهي هذه الكلمات من قاموسهم إلى غير رجعة، ويهديهم "بساط الريح" وهو عبور الفلسطيني إلى مصر من غير تأشيرة سفر.