الحوار الوطني... وترشيد الاختلاف بقلم د. حسن حنفي

الحوار الوطني... وترشيد الاختلاف  بقلم  د. حسن حنفي
الحوار الوطني... وترشيد الاختلاف بقلم د. حسن حنفي

الحوار الوطني... وترشيد الاختلاف

د. حسن حنفي

في بعض الأحيان يكون العنف اللامرئي هو سبب العنف المرئي. فليس العنف هو فقط العنف الجسدي وحده، استعمال القوة المادية، ولكنه قد يكون العنف الاجتماعي الذي يقضي على حرية الاختيار وعلى الوجود الإنساني ذاته. فالنظامان السياسي والاجتماعي مثلاً في العهد السابق في مصر مفروضان على الناس. لم يتم اختيارهما طوعاً على رغم مظاهر الديمقراطية والانتخابات المزورة ودخول الدولة كطرف فيها ضد المعارضة لإنجاح الحزب الحاكم. والنظام الاقتصادي لم يختره الناس، سياسة الأجور، الأسعار، إيجار المساكن، مصاريف المدارس، أعباء الحياة، كل ذلك مفروض قسراً. والنظام الإعلامي لم يختره الناس. وفي مثل تلك الأجواء يشعر المواطن بأنه لا حرية له في اختيار النظام الذي يعيش فيه، مقهور من الصباح حتى المساء. ولا تمتص غضبه أحزاب المعارضة الضعيفة التي نشأت بقرار من الدولة وتحت رعايتها ورقابتها. فيصبح بذلك معرضاً لخطر دعاية الجماعات المتطرفة.

وتهدف الجماعات المتطرفة إلى النيل من مواطن الضعف في الدولة، كأقباط مصر حتى تبدو عاجزة عن الدفاع عن مواطنيها. كما تهدف إلى ضرب السياحة حتى تنهار الدولة اقتصادياً. فدخل مصر من السياحة يكاد يقترب من دخلها من قناة السويس ومن حجم المساعدات الأميركية لمصر، بعد جفاف تحويلات المصريين من الخارج.

وهو عنف يظهر في الأحياء الشعبية حيث يسود منطق «الفتوة»، منطق «اللص والكلاب» منطق «العسكر والحرامية»، كما يبدو في الصعيد حيث يسود الأخذ بالثأر، ومواجهة العائلة بالعائلة، والعشيرة بالعشيرة، ولا دفن للجثث ولا عزاء في الموتى من كلا الطرفين حتى يتم الأخذ بالثأر طبقاً لتقاليد الصعيد.

وطالما أن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، الداخلية والخارجية، على ما هي عليه سيظل تفريخ ثقافة العنف ممكناً، فكراً وممارسة. ولما توقف الحراك الاجتماعي، وأصبح التسليم بالأمر الواقع هو الحجة الدائمة من أجل الاستقرار وعدم هروب رؤوس الأموال الأجنبية في عصر الانفتاح تحولت طاقات المجتمع إما إلى الخارج في الهجرة، هجرة العلماء إلى الغرب، وهجرة العمال إلى الدول الغنية، وإما إلى الداخل في المخدرات أو في جماعات العنف حتى يتسرب الحراك الاجتماعي إلى الداخل نظراً لانسداد المنافذ الخارجية.

إن ثقافة العنف كالطير الشارد، والأسد الجامح، والحصان الجانح. ولا سبيل إلى تهدئتها وترويضها إلا بفرض الشرعية وروح الحوار الوطني.

وبالممارسة الطبيعية للسياسة من منطق الشرعية تغير الثقافة فكراً وسلوكاً وعملاً. فبعد الاطمئنان إلى قوة الشرعية تتوجه الجهود نحو التحديات الرئيسية للمجتمع وقضاياه المصيرية: حرية المواطن، والعدالة الاجتماعية، ووحدة الأمة والدفاع عن الهوية، والتنمية المستقلة، وحشد الجماهير. ويختفي ما نعيبه عليها من غياب البرنامج الاجتماعي الاقتصادي السياسي لها اكتفاء بالشعارات. ويتخلق فكر مستنير قادر على الحوار والتفاعل مع الواقع والدفاع عن المصالح العامة. وتنفتح صفحة جديدة في التاريخ.

ولا يحدث ذلك بين يوم وليلة. فالمحافظة التاريخية رصيد طويل يمتد إلى ألف عام. والتجديد الحديث تعثر وكبا. والنفوس ما زالت تئن من عذاب الماضي وأحزانه. وهناك الماضي العقلاني العلمي الطبيعي الإنساني الاجتماعي المستنير. ومن ثم لزم إبراز التعددية في التراث، وعرض كل البدائل القديمة والحديثة حتى يختار المواطن بلا قهر من القدماء أو فرض من المحدثين.

ولا يمكن حل قضايا الفكر بالقوة. لا حل إلا بالحوار الوطني. وإقامة الجسور بين الآراء المتخاصمة بين الإخوة والأعداء. وعفا الله عما سلف. ويقوم الحوار الوطني على التعددية ثم الحوار الوطني بين فرق الأمة في إطار العروة الوثقى التي لا انفصام لها، وفرق الأمة الآن أربع: الليبراليون والناصريون والإسلاميون والماركسيون، أربعة أطر نظرية تعبر عن تاريخ الأمة المعاصرة، وهي القوى الرئيسية التي تحرك الشارع المصري، وتنتسب إليها الجماهير. وتتفق فيما بينها على ترشيد الاختلاف وإنجاز برنامج عمل وطني موحد مع الإبقاء على تعددية الأطر النظرية. وهو ما أكده الفقهاء القدماء عندما تساءلوا: هل الحق واحد أم متعدد؟ وأجابوا بالإجماع: الحق النظري متعدد، والحق العملي واحد. من أراد أن يحرر فلسطين باسم حرية شعب فلسطين فليفعل. ومن أراد أن يحررها باسم القومية العربية فلا يتردد. ومن أراد أن يحررها باسم الدين وتحرير الأرض المقدسة فليتقدم. ومن أراد أن يحررها دفاعاً عن الطبقة الكادحة من شعب فلسطين فله ما يريد. تتعدد الأطر النظرية لتحرير فلسطين ولكن الجميع يتفق على التحرير كغاية وهدف قومي. ويحدث نفس الشيء لتحقيق حرية المواطن. باسم الليبرالية أو القومية أو «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» أو باسم تحرير الإنسان من القهر والاستغلال. وتحقيق العدالة الاجتماعية باسم الاشتراكية الديمقراطية، أو الاشتراكية العربية، أو الاشتراكية الإسلامية، أو الاشتراكية العلمانية. وتحقيق وحدة الأمة باسم وحدة العالم الحر أو الوحدة العربية أو الوحدة الإسلامية أو «يا عمال العالم اتحدوا». والدفاع عن الهوية باسم الحرية الشخصية أو تأكيداً للشخصية العربية أو أثباتاً للهوية الإسلامية. والدفاع عن حقوق المضطهدين، والتنمية المستقلة باسم اقتصادات السوق أو التخطيط الاقتصادي الإسلامي أو الاقتصاد الاشتراكي. وحشد الجماهير باسم حرية الانتخابات أو بالجماهير العربية من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، أو بالجماهير الإسلامية، الملايين في كل مكان أو باسم الطبقات الكادحة، الأغلبية الصامتة.

بهذا المعنى كلنا ليبراليون إسلاميون ناصريون ماركسيون. ولا توجد خصومة بين المواطنين، وإنما الخصومة في الصراع على السلطة، والسلطة في الشعب وليست في الحكم. السلطة في الثقافة الوطنية وليست في ثقافة التغريب.

وأخيراً، فإن ما تم عرضه في هذا المقال على مدار الأجزاء الخمسة الماضية يمثل «مقاصد الفلاسفة» التي عرضها الغزالي ربما أفضل مما عرض الفلاسفة أنفسهم لمن شاء أن يكتب «تهافت الفلاسفة» لنقد الجماعات المتشددة ثم «تهافت التهافت» لنقد نقد تلك الجماعات.