فرصة جديدة لمصر بقلم : صلاح سالم

فرصة جديدة لمصر  بقلم  : صلاح سالم
فرصة جديدة لمصر بقلم : صلاح سالم

فرصة جديدة لمصر بقلم  : صلاح سالم

دخلت مصر في ما يشبه حرباً مع نفسها حرب استنزاف داخلية تكاد تستهلكها رمزياً ومادياً إزاء مذبحة قضاء، كادت أن تقع، مستعادة من عصر عبدالناصر، وإزاء تهديدات للرئيس مرسي بإجراءات استثنائية من نهاية عصر السادات، وإزاء العودة الفعلية ظاهرة الإظلام الكهربائي، الموروثة من نهاية عصر مبارك، نصبح أمام مشهد نهاية حزين وسريع لنظام متهرئ قادته جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وأداره (الوكيل الرئاسي) الدكتور محمد مرسي، أخذ يعاني، بعد تسعة أشهر، من كل ما عانى نظام يوليو في العقود الأربعة الأخيرة، وبالذات نظام الرئيس مبارك في الثلاثة الأخيرة منها، تم خلالها إهدار ثلاث فرص حقيقية للتحول الديموقراطي، تسبق فرصة 25 يناير المغدورة.

حتى الآن: الفرصة الأولى تمتد في النصف الثاني للسبعينات، وتحديداً في 1976 عندما بدأت تجربة المنابر الحزبية كخطوة أولى على طريق التعددية، وهي لحظة أتت على خلفية تحول إقليمي خرجت مصر معه من دوامة الصراع مع إسرائيل، والذي كانت الحركة المصرية نحو التحديث والديموقراطية قد تجمدت بسببه، ولو دعائياً على الأقل.

غير أن حركة 18، 19 يناير 1977 التي أتت على خلفية تحولات اقتصادية انطوت على كثير من وقائع الفساد، وقادت إلى رفع أسعار السلع الأساسية وتخفيض الدعم، قد أثارت هواجس الرئيس السادات إزاء الشارع، وأشعرته بتآكل شرعية نصر أكتوبر العسكري، ومنحته مزاجاً انغلاقياً ازدادت وطأته مع أحداث سبتمبر 1981، حيث اعتقل كل رموز المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، الأمر الذي مهد للانفجار الكبير الذي أودى بحياته هو شخصياً في خريف الغضب بعد شهر واحد من العام نفسه.

وكان منطقياً أن تنشغل مصر حتى نهاية الثمانينات عن هاجس التحول الديموقراطي بإزالة آثار حادث المنصة وموجة الإرهاب التي أطلقها. والفرصة الثانية تمتد في النصف الأول من التسعينات، وذلك على خلفية حرب تحرير الكويت التي مكنت النظام المصري من إعادة إنتاج نفسه، واكتساب شرعية جديدة بتأثير مساهمته الفعالة في الحرب، وبفعل العوائد الاقتصادية التي نجمت عنها، والتي مكنته من تجاوز كامل للحظة الاحتقان الدموي المصاحبة لخريف الغضب.

كما أتت هذه الفرصة على خلفية تغير دولي كبير تمثل في زوال الاتحاد السوفياتي، وانهيار المعسكر الشيوعي، وهبوب الموجة الثالثة للديموقراطية انطلاقاً من الشرق الأوروبي.

غير أن الفرصة أفلتت من مصر مرة أخرى، فتأخرت ديموقراطياً بالقياس إلى مجتمعات ربما كانت أقل تطوراً منها على صعيد الوعي الليبرالي والحداثة الاجتماعية، بل حتى بالقياس إلى نفسها، حيث شهدت التجربة المصرية تراجعاً واضحاً على صعيد التعددية والتمثيل النسبي للمعارضة الحزبية في انتخابات عامي 1990 و1995 قياساً إلى انتخابات عامي 1984 و1987 اللتين أنتجتا برلماناً قوياً تتمتع فيه المعارضة، خصوصاً «الإخوانية»، بحضور كبير عبر تحالفها مع حزب الوفد ثم حزب العمل.

وكان ذلك التطور السلبي، مضافاً إليه الحصار المضروب حول العراق وعودة العاملين المصريين فيه، دافعاً إلى هبوب موجة إرهابية عاتية استمرت حتى الثلث الأخير من التسعينات، كشفت عن مدى احتقان الفجوة الديموقراطية، وعمق الاحتياج للإصلاح السياسي.

أما الفرصة الثالثة فتمتد في اللحظة التاريخية التالية لاحتلال العراق في 2003 وحتى نهاية عام 2010.

كان الضغط الأميركي باتجاه نشر الديموقراطية في المنطقة قد بلغ ذروته، تأسيساً على قراءة اختزالية للعلاقة بين الحرب والديموقراطية، وبين عدوانية صدام حسين العسكرية ونظامه الديكتاتوري.

كما بلغ الضغط الداخلي حداً غير مسبوق، خصوصاً بعد أن تشكلت حركة كفاية عام 2004، وبدأت المطالبة العلنية بعدم التمديد لمبارك الأب، أو توريث مبارك الابن.

غير أن الضغوط الداخلية والخارجية معاً لم تفلح في إقناع الرئيس السابق بتحول حقيقي نحو الوعد الديموقراطي، ولم تثمر سوى تعديل جزئي للمادة الـ76 من الدستور في آذار (مارس) 2005، لإتاحة إجراء انتخابات رئاسية يفترض أنها تعددية، ولكن الشروط الصعبة المفروضة على الترشح جعلت تعدديتها الظاهرية استحالة واقعية.

وهنا دخل المجتمع المصري ما يمكن وصفه بلحظة «غياب الأمل»، خصوصاً منذ صيف 2008، عندما نشبت الأزمة المالية العالمية، وأخذت تضرب المصريين وتدفع حكومتهم إلى التفتيش عن كل ما يقيم أودها ويصلب عودها، فرفعت الأسعار، وأعلنت عن ضريبة عقارية جديدة أشعرت الجميع، حتى غير المعنيين مباشرة بها، بقلق بالغ، لأن فكرتها مخيفة وهي أن تدفع مالاً عن بيتك الذي تسكنه، على رغم أنك قد تكون أفنيت جل عمرك أو اغتربت عن وطنك من أجل أن تملكه، وأن تشعر داخله بالأمان من وطأة السنين وتقلبات الأيام.

في هذا الوقت كانت التظاهرات تنامت إلى حد غير مسبوق، وكانت حركة 6 أبريل قد أُنشئت وقامت بأول إضراب لها في المحلة الكبرى، وبدأت ظاهرة الإظلام الليلي في مدن وقرى مصر نتيجة لضعف التغذية الكهربائية ومحاولة تخفيف الأحمال، وهو أمر تسرب إلى أعماقي في صورة مشاعر دفينة بغروب شمس هذا النظام، بعد أن استهلك نفسه، وتغذى طويلاً على مقومات وجوده، ولم يعد لديه ما يعد به الناس سوى تلك الفكرة المريضة والمغرورة عن التوريث كبديل وحيد للتأبيد.

أما الفرصة الرابعة فولدت من رحم ثورة 25 يناير، ومن ثم فهي لا تشبه سابقاتها، فإذا كانت الفرص الثلاث الأولى جزئية، أتاحتها مجرد تحولات محيطة بالنظام، فإن هذه الفرصة الراهنة أتت كاملة على خلفية انهيار النظام كله، وعلى أرضية حلم هادر لدى المصريين بالحرية والكرامة.

غير أن ما اعتبر ميزة كبرى تتيح الفرصة كاملة لميلاد جديد، سرعان ما تحول عبئاً حقيقياً بفعل رغبة جماعة سياسية دينية في السطو على اللحظة التاريخية المؤسسة للمستقبل من خلال أفكار رجعية تنتمي إلى الماضي القريب سياسياً، والماضي البعيد ثقافياً.

وأيضاً بفعل نظام حكم يقوم على ثنائية الديني والسياسي رمزياً، وثنائية سلطوية حادة طرفاها الجماعة والدولة واقعياً، حيث تصارع أبنية الدولة المدنية، خصوصاً بيــروقــــراطيــتها العــريقة ومؤسساتها الحديثة، ضد محاولات السيطرة والاختراق الديني للجماعة الملتحفة بنوع مبتذل وطارئ من الشرعية السياسية.

هكذا، دخلت مصر في ما يشبه حرباً مع نفسها، حرب استنزاف داخلية، تكاد تستهلكها رمزياً ومادياً.

وبدلاً من دولة عريقة كانت تتطرف في ادعاء قوتها وهيمنتها، وتسرف في استخدام قبضتها الأمنية، أصبحنا أمام شبح دولة عاجزة عن الدفاع عن نفسها، تستعذب العدوان على جل مؤسساتها، بفعل رئيس وعدنا بأن تذوب الجماعة في الوطن، فإذا به يريق دماء الوطن على مذبح الجماعة، ليُضيِّع على الوطن فرصة جديدة، من دون أن يدري أنها الفرصة الأخيرة لجماعته.