سلوكنا بدافع الحرمان بقلم: إيمان فضل الزهار الأخصائية النفسية

سلوكنا بدافع الحرمان  بقلم: إيمان فضل الزهار  الأخصائية النفسية
سلوكنا بدافع الحرمان بقلم: إيمان فضل الزهار الأخصائية النفسية

سلوكنا بدافع الحرمان

بقلم: إيمان فضل الزهار

الأخصائية النفسية بجمعية الوداد

أشفقت لحاله وهو يتلو على مسامعي أوجاع أيامه الماضية ، إنه الطفل الكبير " سعيد " ذو الستين عاماً ، الذي لم يكن له من اسمه نصيب فبالإضافة لأقدامه المكسورة، ووجهه الذي غطت الضمادة جزءً كبيراً منه فإن كل ما فيه يوحي لك بمقدار الحياة القاسية التي عاشها وما زال يعيشها إلى أن يأذن الله أمراً كان مفعولا.

قال " يا بنتي أنا منذ كنت صغيراً حُرِمْت كثيراً مما كنت أرغب فيه، تربيت يتيم الأب وعشت حياتي مع زوج أمي ، سامحه الله كان يدلل أولاده كثيراً ، لكنني لا أذكر أنه يوماً اشترى أو قدَّم لي شيئاً بسيطاً يفرح به قلبي كبقية إخوتي ، وكان يأخذني معه لمدينة الألعاب ويقلُّهُم  في الأراجيح ، لأسمع أصوات ضحكاتهم وصراخهم المجنون عندما ترتفع المراجيح وتنخفض حتى أصبح ركوبها حسره في قلبي ، وحلماً أتمنى أن يتحقق يوماً ، لقد كان حلماً فقط لأن زوج أمي اختار لي أن أقف جانباً, أحرس أمتعته وأمتعه أطفاله بينما كان هو يركب المراجيح إلى جانب أطفاله ،لتراقبهم عيناي اللتان كادتا أن تخرجا من محاجرها مع كل صعود وهبوط وقلبي الذي كان يرفرف ويهفو لركوبها " ، وقال الحاج ملخصاً (كان جبَّاراً ..الله يرحمه )

مضى قطار الزمن ولم تسمح لي حياتي القاسية بالتعلم ، وشاء الله أن أصبح حارساً لمدينه الألعاب، كانت المدينة تعجُّ  بزائريها في الصيف حتى تكاد تسمع فيها أصوات شهيق وزفير خافته تُشعِرُكَ باختناقها من الحرِّ والناس ، أما في الشتاء فكانت تُغلَقُ من قِبَل أصحابها وأنا أبقى حارساً لها آوي فيها لغرفة صغيرة هي بيتي الذي أعيش فيه في هذه الحياة ، وفى ليلة من ليالي الشتاء القارص لا أعرف كيف جاءتني فكرة وهي أن أصعد لركوب الأرجوحة ، بعد هذا العمر ؟ قلت لنفسي لم لا ! لن يراني أحد والمكان خالٍ (لأنو الظاهر ظلت حسرة بقلبي من أنا وصغير يعنى من 55 سنه ).

 وكنت أرى الناس تشهق وتضحك فأحببت أن أجرب هذا الشعور الذي لم أجربه يوماً ببساطه دخلت لغرفه المولدات وضغطت زر التشغيل وقبل اشتداد حركة الأرجوحة قفزت إليها ، وشيئاً فشيئاً بدأت الأرجوحة ترتفع وشعرت بقلبي يخرج من صدري لقد كان يرقص بين أضلعي والهواء البارد ينعش كل خليه فيه، شعرت وكأني  طفل في الخامسة من عمره يطير بين الغيم الأبيض، لقد بكيت كثيراً لا أعرف لماذا ربما لأنَّ حلمي تحقق، وبعدها ضحكت كثيراً كالمجنون وتمنيت لو أنَّ أمي رأتني على هذا الحال بالتأكيد كانت ستفرح لأجلي، قضيت لحظات لن أنساها في حياتي.

 بعد ذلك ذهبت  السكرة وجاءت الفكرة، كما يقول الحاج سعيد ، كيف سأنزل ، بدأ رأسي ومعدتي يؤلمانني ، والأرجوحة لا تتوقف، ورغم صراخي لا يمكن أن يسمعني أحد فالمطر يهطل والناس في بيوتهم البعيدة، لقد بقيت لساعات على هذه الوضعية حتى أصابني الإرهاق والتعب وفقدت توازني وشيئاً فشيئاً شعرت أن نهايتي تقترب وخفت أن يكون موتى في المكان الذي كان حلماً لي طوال حياتي، ومن حلاوة الروح ألقيت بنفسي على الأرض، فكسرت رجلاي الاثنتين وتهشم وجهي ، صحيح تحقق الحلم ولكن بعد فوات الأوان، ودفعت ثمنه الكثير.

هذا ما حدثني به العم سعيد ولكن رغم الحزن الذي اعتصر قلبي على هذا الرجل إلا أنَّ عقلي كان يحلِّق أثناء حديثه في مجال آخر، لقد  كان يذكرني أثناء حديثه بسلوكنا وكيف يكون الحرمان والنقص  دافعاً ومحركاً له في كثير من الأحيان ، نحن لا ننكر أنَّ النقص هو جزء لا يتجزأ منا وكأنه جينات وُرِّثت إلينا من جيل لآخر عبر الخليقة، ليؤكِّد لنا دوماً أنَّ الكمال لا يكون إلا لوجه الله الكريم.

 ولا نستطيع أن ننكر أنَّ كل واحد منا شعر يوماً بمشاعر النقص، ولا نستطيع أن ننكر أيضا أنَّ ما يتولَّد لدينا من نقص في مرحله الطفولة يؤسس لهذا الشعور في المستقبل، إن النقص يعبر عن شعور داخلي لدى الإنسان بالدونية لعجز عضوي نفسي أو اجتماعي يُولِّد لديه التوتر والضيق بطريقه تؤثِّر على سلوكه ويحاول التعويض عنها قدر الإمكان، و لجوؤنا لاستخدام ميكانيزم (آلية) التعويض النفسي اللاشعورية هو لغرض تقليل وتخفيف حدة التوتر الناتج عن حالة الإحباط التي نتعرض لها وذلك بمحاولة التفوق في جوانب أخرى.

وكان العم " سعيد " شفاه الله  شخصا راضيا، رغم أنه شعر طوال حياته أنه لم يحظ بما حظي به الآخرون لكنه حاول جاهدا أن يحيا حياته راضيا مع نفسه مرضيا لغيره دون أن يجعل الآخرين يدفعون ثمن النقص الذي عاشه.