شر التنظيمات «الجهادية» د. عبد الحق عزوزي

شر التنظيمات «الجهادية»  د. عبد الحق عزوزي
شر التنظيمات «الجهادية» د. عبد الحق عزوزي

شر التنظيمات «الجهادية»

د. عبد الحق عزوزي

التنظيمات «الجهادية» المرتبطة بـ«القاعدة» أصبحت أكثر ضبابية وأكثر توالداً، لأن الأوامر لم تعد تصدر إليها من أعالي جبال أفغانستان، وإنما تقوم بعمليات انطلاقاً من مبدأ ما أسميه باللامركزية التنظيمية؛ ويعرف علماء القانون الإداري أنه في الدولة الموحدة يكون التقييم الإداري المبني على اللامركزية أكثر فاعلية وقوة من المركزية في نتائج أخذ القرارات الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والإدارية والتنموية بل وحتى السياسية منها. وعندما تدخلت فرنسا في مالي، اكتشف الإنسان العربي التواجد المهول لتلك التنظيمات ذات الأسماء المتنوعة، كما اكتشف وجودها العفن في مجتمعات الدول، ابتداء من مالي والساحل والصحراء، وصولًا إلى أفغانستان وباكستان، ومروراً بإيران وموريتانيا وسوريا وليبيا والقائمة طويلة. فهذا الفصيل من التنظيم الجماعي موجود وخطير ومزدهر يأتي على العقول الضالة، أو الجاهلة ليخرجها من الفطرة الإسلامية السمحة، ومن العقلانية الدينية إلى الهمجية المطلقة العمياء. ويذكرني أتباع هذه التنظيمات بما كتبه الأنثروبولوجي المغربي عبد الله حمودي منذ أزيد من عقدين في كتابه: "الشيخ والمريد" عندما أراد شرح "ديمومة" السلطوية في أوطاننا العربية بوجود نوع من الخضوع المطلق في المجال السياسي على شاكلة ما يقع في الزوايا الصوفية من العلاقة الروحية والخضوع المطلق من المريد اتجاه شيخه؛ وكنت قد حاولت في كتابات لي تفنيد هذا النوع من النظريات التي تتفق مع تلك التي صاغها مثلًا هشام شرابي في نظريته عن البطركية الجديدة، بمعنى أن العلاقة الخضوعية المطلقة بين الابن والوالدين ونوعية التربية تنعكس على المجال السياسي فيصبح نفس الخضوع قائماً بين الحكم والمحكوم دونما مرور بأساليب صناديق الاقتراع والديمقراطية الصحيحة. والتشبيه هنا خاطئ، ولكن له مدلولاً للأسف فيما يتعلق بنوعية العلاقة التي تربط مريدي التنظيمات الإرهابية برؤسائهم، أناس ملوثة عقولهم يحملون علماً ضيقاً أو جهلًا مطلقاً، ويكنون خضوعاً مطلقاً لأصحاب التنظيمات "الجهادية"، وينافحون بالسلاح لفرض مبادئ ضالة ومضلة تأتي على أبرياء من بني البشر وتقوض مبادئ التسامح والتعايش بين بني آدم. فمبدأ البيعة والطاعة هما الأساسان لدى هياكل التنظيمات "الجهادية"، فيقدم منظروها ومريدوها خطابات تدعي أنها إسلامية -والإسلام براء منها- وتتوسل بالعنف المسلح لتحقيق غاياتها الظاهرة والباطنة، وترى أن آليات الإصلاح تتم عبر انتزاع السلطة باستعمال السلاح والتقتيل، سواء في عقر أوطانها أو في الأوطان الغربية... فالتيار السلفي الجهادي يضع نفسه كتيار عالمي دونما حاجة إلى أوامر تأتي من أعالي جبال أفغانستان؛ والقاضي الفرنسي جان لوي بروغيير المختص في شؤون إرهاب "القاعدة" يكتب في هذا الباب: "المشكلة مع القاعدة تكمن في أن شبكاتها مدوّلة جداً، وتضم ناشطين متطرفين من السلفيين الذين انتموا إلى منظمات (محلية).... ثم غادروها لينضموا إلى الجهاد من دون أن يكون ذلك مرتبطاً ببلد أو دولة معينة، وإنما لتعميم الجهاد على المستوى العالمي". وهذا هو المشكل. أضف إلى ذلك، هذه الشريحة من الناس تظن أنها تمتلك الحقيقة المطلقة وأن إيديولوجيتها خلاصية في الدنيا والآخرة! كما أن من سماتها الاستمرارية كما يكتب الأستاذ مراد بطل: "فعندما ضُربت الحركات الإسلامية المسلحة عقب اغتيال أنور السادات في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي بدؤوا بالهجرة إلى أفغانستان، وعلى إثر الانتصار على الاتحاد السوفييتي سعى البعض لتكرار التجربة (أي النصر)، إما في الداخل أو في الخارج؛ ففي مواجهة "العدو القريب" تزايدت حوادث العنف في المملكة العربية السعودية ومصر والجزائر وليبيا، وكل مرتكبيها كانوا ممن لهم سابق خبرة في أفغانستان. إلا أن عدم تحقيق العنف لهذا الهدف، دفع إلى التحول إلى مواجهة "العدو البعيد"، فبدأت أعداد المتطوعين العرب تتزايد في مناطق القتال مثل الشيشان، والبلقان، والفلبين... إلخ، ووقع تفجيرا كينيا وتنزانيا عام 1998، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، التي على إثرها وإثر الهزيمة في أفغانستان عاد تيار العنف الإسلامي ليواجه "العدو القريب" مرة أخرى، وهذا ما برز عبر قيامه بأعمال عنف في عدد من المدن الرئيسية العربية والدول المجاورة، ومن ثم زاد زخم التيار في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، وانتقل منه إلى مناطق أخرى في العالم".

ومنفذا تفجيرات بوسطن استنشقا هذه الإيديولوجية الخطيرة حتى لو لم يتوصلا بأوامر من أحد، وحتى لو لم ينتميا أو يعلنا انتماءهما لأية منظمة جهادية؛ وعلى رغم أن كل المعلومات الموجودة إلى حد الآن تشير إلى أن الأخوين ليسا بإرهابيين قاسيين مدربين، فلهما أوجه شبه مع منفذي تفجيرات مدريد ولندن ومدن أوروبية أخرى.

وحاصل القول في هذا كله، إن تلك التنظيمات "الجهادية" المتطرفة زادها تشدداً وغلواً فشلها في الجمع بين الدين والسياسة، فانفجرت القشرة الحامية لكرة التعايش وتحجرت العقول وأضلوا أنفسهم وضلوا... الدين للجميع والحلال بيّن والحرام بيّن والسياسة هي فن إدارة الاختلاف، والزج بالدين في السياسة والسياسة في الدين خطر على الدين وخطر على السياسة وخطر على المجال السياسي؛ والأدهى من ذلك هو غلو مريدي التنظيمات "الجهادية" الذين يرتمون منذ نعومة أظفارهم في مستنقع الفكر الشمولي ليخلق إيديولوجية عمياء هي في نظرهم خلاصية ولا تطيق الاعتراف بفشل مشروعها السياسي أو الاجتماعي وأكثر من ذلك فشل الجميع في العلم والمعرفة والتربية والتقنية؛ فيؤدي العرب والمسلمون، وللأسف الشديد، ثمن خروج التنظيمات "الجهادية" عن صفحات التاريخ