الحداثة الدينية والحداثة السياسية بقلم : د. السيد ولد أباه

الحداثة الدينية والحداثة السياسية  بقلم : د. السيد ولد أباه
الحداثة الدينية والحداثة السياسية بقلم : د. السيد ولد أباه

الحداثة الدينية والحداثة السياسية

بقلم : د. السيد ولد أباه

في نقاش جرى بيني مع أحد كبار علماء الإسلام المعاصرين حول التطبيقات الإسلامية الراهنة للموضوع السياسي، قال لي الفقيه المتميز :«لولا خشية الفتنة واستهداف العرض لأفتيت أن مصلحة الإسلام ومتطلبات السلم الأهلي تقتضي الأخذ بالنظم العلمانية الغربية مع ضمان احترام الدين والدعوة إلى قيمه وفضائله» . ذكر لي الفقيه المجدد أنه نصح بعض قيادات «الإخوان المسلمين» في مصر بالابتعاد عن شؤون الحكم وتركها للفاعلين السياسيين، حفاظاً على منزلة الدين وإشعاعه في المجتمع، وقد وعدوه بعيد سقوط حكم «مبارك» أنهم سيكتفون بالمشاركة المحدودة في الشأن العام دون الطموح للمسؤوليات العليا، قبل أن يكتشف جشعهم للسلطة والحكم.

ذكرت لمحدثي أن موضوع العلمانية الذي يستثير في أيامنا اهتماماً واسعاً يحجب من الحقائق أكثر مما يبين، وأن المصطلح أصبح مدار اعتراض واسع لدى الباحثين الاجتماعيين في المسألة الدينية - السياسية لهذا السبب، رغم أنه لا يزال يوظف باستمرار في الصراع الإيديولوجي – السياسي بين الإسلاميين وخصومهم.

ومع ظهور بعض المحاولات الأخيرة داخل حقل الدراسات الاجتماعية العربية لإعادة النظر في الإشكالية الدينية - السياسية من منظور نقدي تجديدي، إلا أن هذه المحاولات في غالبها لم تتجاوز الطابع المدرسي التبسيطي، أو الصياغات التوفيقية الظرفية التي تعكس استراتيجيات تموقع ظرفي في الساحة السياسية العربية الجديدة.

والملاحظ إجمالاً أن الباحثين العرب لا يزالون سجناء أطروحة العلمنة من حيث هي حصيلة العلاقة التعاكسية بين العقلانية الحداثية والنسق الديني اعتقاداً وممارسة، مع الاختلاف الواسع في المقاربات التأليفية لهذه الثنائية. وكما هو معروف يرجع هذا التصور إلى عالم الاجتماع الألماني «ماكس فيبر»، ويستند لحقائق واتجاهات ملموسة وجلية في التجربة العملية (الوضع الديني في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأميركية). ويوضح الفيلسوف الكندي «تشارلز تايلور» في كتابه الأخير «العصر العلماني»the secular age أن النموذج النظري للعلمنة انتقل من حقل تشكله التاريخي إلى سجل البحث الاجتماعي من منطلق التصور الأوروبي المركزي للحداثة من حيث هي حالة كونية وليست سياقاً ثقافياً تاريخياً، مما يعني تحويل الخصوصية الغربية إلى حالة كلية هي الأفق الغائي لكل المجتمعات الإنسانية.

ويرجع «تايلور» هذه النقلة الدلالية إلى ربط مفكري الحداثة الأوروبيين بين التحولات المؤسسية، التي طالت أشكال النظم الاجتماعية والسياسية وبعض التحولات الثقافية النوعية مثل تنامي النزعة الفردية والعقل الأداتي والعلمنة. ويكشف «تايلور» عن مفارقة الخلفية المسيحية لهذا التصور، مستشهداً بقول «هيجل» إن المسيحية ليست ظاهرة تاريخية، بل هي مسار تحقق العقل ذاته، حتى لو أخذ هذا التحقق شكل انسحاب الدين من الشأن العمومي بتجسيد الدولة المطلقة له في صيغ موضوعية. هذا النموذج الذي جذرته أطروحة فيبر -وإنْ كانت خلفياته تعود لعصر الأنوار- أضحى موضوع مراجعة نقدية في مصادره الثلاثة الرئيسية التي هي: - تقويض العقلانية العلمية النقدية لرؤية الدين للكون، بمعنى انحسار منابع الإيمان الديني. -تراجع الممارسة الدينية إلى حد الانحسار في مجتمعات انهارت فيها البنيات المؤسسية للديانات الكونية الكبرى. - إلغاء أي دور للدين في الشأن العمومي الذي أضحى يقوم على شرعية النقاش العقلاني الحر والممارسة البيروقراطية المجردة. لقد بينت الأبحاث الميدانية المقارنة التي قيم بها في السياقات غير الغربية عدم تلازم النظم المؤسسية المكرسة للحرية والديمقراطية التعددية وطبيعة الأنساق الثقافية والعقدية، مما يدل على أن الإدارة العقلانية التعددية للمجال السياسي العمومي لا يترتب عليها ضرورة تراجع منزلة الدين في الشأن الفردي والشأن الاجتماعي.

كما أن الأبحاث الميدانية التي جرت في البلدان الغربية نفسها بينت من جهة اختلافها الواضح في نسب الممارسة الدينية على الرغم من تشابه تجاربها ونظمها السياسية، وبينت من جهة أخرى أن النسق الديني في جوهره لم يتراجع ولم يضعف وإنْ تغيرت نوعياً مكوناته الداخلية. فلا تزال نسبة الاعتقاد في المُطْلقات والمقدسات والكائنات المفارقة هي نفسها تقريباً في المجتمعات الغربية منذ قرون، كما أن الممارسة وإنْ تغيرت أشكالها وضوابطها لم تتراجع في العمق. إن الذي حدث مع العصور الحديثة في الغرب هو اتجاهان متلازمان كشفت عنهما الأبحاث الاجتماعية وهما: انسياب أنماط وصيغ التدين خارج القنوات المؤسسية التقليدية للدين، وإعادة تشكل الهياكل المؤسسية للدين للتأقلم مع مسار التحديث التقني والاجتماعي. فالمجتمعات العلمانية الحديثة لم تقض على الإيمان، وإنما كثفت الحاجة إليه في سياقات تعددية لا مرجعية مطلقة تحكمها، ولم تفض على الممارسة الدينية، وإنما أفضت إلى تنويعها وتشتيتها.

من هذا المنظور يتعين تفكيك الألغام النظرية والأيديولوجية التي أحاطت بها الأطروحة العلمانية الرائجة ومقتضيات وضوابط إدارة العلاقة بين الدين والسياسة في وضعنا العربي الراهن. من النتائج المستخلصة من تجارب التحديث السياسي في آسيا وأميركا الجنوبية أن المؤسسات الديمقراطية الضامنة لقيم التعددية والحرية استنبتت في أرضية ثقافية مغايرة للنموذج الغربي الأصلي، ولم تؤد إلى تقويض المرجعيات الدينية المحلية.

كما أنه من البديهي أن الإسلام في منطلقاته العقدية وشرائعه وأحكامه التكليفية مؤهل للتعامل مع محددات الحداثة الدينية التي المحنا إليها، باعتبار غياب نظام مؤسسي معيق لتجديد مسالك التدين تأويلاً وممارسة، وبالنظر إلى مرونة وبساطة مدونته التعبدية التي يمكنها بسهولة التأقلم مع المقتضيات الجديدة للممارسة الدينية.

رجوعاً لحديثي مع الفقيه المجدد، ذكر لي الرجل أن الإسلاميين الحركيين لا يدركون ماذا يعنيه كون مدار أركان الإسلام الخمسة هو الفرد المكلف، وأن أحكام الإسلام في الشأن العام لا تتجاوز قواعد كلية ثلاثا هي :الأمن والعدل والشورى، وهي قواعد تؤمنها الديمقراطية المعاصرة دون الحاجة إلى غطاء ديني. قلت لمحدثي :ذلك بالضبط هو درس الحداثة السياسية في ما وراء الجدل العقيم حول العلمانية والدين.