مهرب من الرقابة الدستورية بقلم : وحيد عبد المجيد

مهرب من الرقابة الدستورية  بقلم : وحيد عبد المجيد
مهرب من الرقابة الدستورية بقلم : وحيد عبد المجيد

مهرب من الرقابة الدستورية

بقلم : وحيد عبد المجيد

 

المستبدون لا يطيقون القضاء المستقل. يرفضونه. يمقتونه. ولذلك يحاربونه دائماً. تختلف حروبهم عليه فى الشكل، ولكن ليس فى الهدف الذى يرمون إليه. فهم يبغون الحكم بلا رقابة، حتى لا يتعرضوا للمساءلة، ومن ثم للمحاسبة. ورغم أن كراهية المستبدين للقضاء تشمل هيئاته كلها، فهى تنصب على القضاءين الدستورى والإدارى أكثر من غيرهما، لأنهما الأكثر إزعاجاً لهم حين يقيمان العدل. ولذلك، فما إن صدر حكم محكمة القضاء الإدارى فى الأسبوع الماضى، بوقف تنفيذ قرار الدعوة إلى الانتخابات وإحالة القرار المنظم لها إلى المحكمة الدستورية، حتى بدأوا فى مهاجمته قبل أن تصدر إليهم التعليمات بالتوقف، عسى أن يكون فيه مخرج من إحدى الأزمات المترتبة على استبدادهم. غير أن هذا الحكم سيظل يؤرقهم لما يتضمنه من إحباط جزئى لمحاولتهم تقييد رقابة المحكمة الدستورية على القوانين المنظمة للحياة السياسية التى يتطلعون إلى الهيمنة عليها. فقد استغلوا أغلبيتهم فى الجمعية التأسيسية لتقليص دور المحكمة الدستورية العليا، فضلاً عن إعادة تشكيلها. وكان أحد أهم ما قاموا به فى سياق هذا التقليص هو تقييد رقابتها على القوانين الأساسية التى تنظم الحياة السياسية، من خلال جعلها رقابة سابقة وليست لاحقة. وكان هدفهم تحصين هذه القوانين من أى رقابة دستورية فعلياً، بحيث تكون لهم الكلمة الأخيرة فى هذه القوانين، عبر إحالتها إلى المحكمة لتبدى ملاحظتها عليها قبل تطبيقها والأخذ بما يناسبهم من هذه الملاحظات أو تفريغها كلها من مضمونها، مع حظر ممارسة رقابة عليها بعد ذلك. وظنوا أن التلاعب باللغة، وهو من السمات الغالبة فى الدستور الجديد، يتيح لهم ذلك، فلم يلزموا البرلمان الذى ينظر فى ملاحظات المحكمة الدستورية فى إطار «رقابتها» السابقة إلا بما سموه «إعمال مقتضى قرارها»، معتقدين أن هذه الصيغة تمنحهم الحق فى تحديد ما يأخذون به مما يرد إليهم من تلك المحكمة. ويرتبط التلاعب هنا باعتقادهم فى أن هناك فرقاً بين تنفيذ قرار المحكمة وإعمال مقتضى هذا القرار. وهذا هو ما تعاملوا به مع مشروع قانون انتخاب مجلس النواب وفقاً له، فقد أعادوا تفسير ما ورد فى قرار المحكمة بشأن شرط أداء الخدمة العسكرية، وأجروا تعديلاً جزئياً فى تقسيم الدوائر لا يلبى حتى مقتضى قرار المحكمة بضرورة الالتزام بنص الدستور الجديد على عدالة تمثيل السكان والمحافظات فى هذا التقسيم، وأعلنوا فى الوقت نفسه أن الأمر صار منتهياً بدعوى عدم وجود رقابة لاحقة وفقاً لما نص عليه دستورهم. ولكن حكم القضاء الإدارى أحبط هذا التدبير الماكر، وأرسى مبدأ بالغ الأهمية، مؤداه أن الرقابة اللاحقة لا تنتفى إلا إذا استنفدت المحكمة الدستورية ولايتها كاملة فى الرقابة السابقة. ويعنى ذلك أنه إذا لم تقرر هذه المحكمة أن التعديلات التى أدخلها البرلمان على مشروع القانون الذى أعملت رقابتها السابقة عليه تستوفى الغرض من هذه الرقابة، سيكون لها أن تمارس رقابتها اللاحقة فى حالة حدوث طعن على دستورية هذا المشروع بعد إصداره والعمل به، فقد نص الحكم على أن الرقابة الدستورية السابقة هى عملية فنية لا يملك الحكم على تمامها كاملة إلا الجهة صاحبة الولاية عليها، وهى المحكمة الدستورية العليا، وإلا لما نص الدستور على هذه الرقابة. كما ألزم الحكم البرلمان بالتأكد من أن المشروع الذى يقدمه إلى المحكمة لمراقبته صار مطابقاً للدستور قبل أن يصدره، وأوضح أن «القول بعدم التزام المجلس المختص بالتشريع بإعادة عرض التعديلات التى يجريها على المحكمة الدستورية العليا يفرِّغ فكرة الرقابة الدستورية من مضمونها». وانتهى الحكم إلى أن «إصدار قانون دون استيفاء الرقابة السابقة على وجه كامل وصحيح يخضعه للرقابة اللاحقة.. ولذلك يجب خضوع القوانين التى لم تخضع للرقابة السابقة على وجه صحيح أو التى خضعت لها وشاب إقرارها مخالفة، للرقابة اللاحقة». ولذلك ربما تكون الدلالة الأساسية لهذا الحكم هى أنه لا مهرب من الرقابة الدستورية مهما بلغ مكر المستبدين.