المصالحة .. ولادة قيصرية لمسيرة متعثرة !! ...د.غازي حمد

المصالحة .. ولادة قيصرية لمسيرة متعثرة !! ...د.غازي حمد
المصالحة .. ولادة قيصرية لمسيرة متعثرة !! ...د.غازي حمد

المصالحة .. ولادة قيصرية لمسيرة متعثرة !! ...د.غازي حمد

كأنما المصالحة "محسودة" بعمل سحري أسود يستحيل حله .. أو كأنما عقدت عليها النفاثات ثلاث عقد محكمات .. أو كأنما هي من طلاسم القرون الوسطى غير القابلة للتفكيك  !! اعجزتنا المصالحة أم نحن أعجزناها ؟ هل كرهتنا ام كرهناها ؟ هل غلبتنا على طاقتنا وحكمتنا اصرا وأرهقتنا عسرا وتركتنا ضياعا بلا تاريخ ولا مستقبل ؟ . 

لم يعد مصطلح " المصالحة " رائجا في السوق الفلسطيني, وأصبح الناس ينظرون اليه على انه بضاعة كاسدة , لكن يقولون ذلك بحسرة .كاد الاحباط ان يصل بالقلوب الى الحناجر , وبدا ان المواطن فقد ثقته رغم تعلقه بها . فقدان الثقة بالمصالحة يعني فقدان الثقة بالمستقبل وفقدان الثقة بكل شيء . اذا لم تكن هناك مصالحة فبالضرورة ليست هناك وحدة وليس هناك تحرير ولا مستقبل .. وحتى لا فرصة نجاح لحل سياسي بدونها.

فقط البؤساء هم الذين يتحدثون عن "ادارة الانقسام " او " التعايش معه !! وهل الانقسام(الذي هو خطأ) يخضع لمعايير الادارة  العلمية ؟. التعايش مع الانقسام مثل التعايش بين السلام والاحتلال. . معادلة مستحيلة . والبؤساء الواهمون هم من يفكرون بخيارات لا تمر عبر بوابة المصالحة.

هل نضع عصانا ونكف عن الترحال والبحث ؟ هل نرفع الراية البيضاء بأننا كفلسطينيين افلسنا وفشلنا في تحقيق اغلى حلم ينتظره الفلسطينيون منذ ست سنوات ؟ هل يمر بتفكيرنا بان استمرار الانقسام يمنح الاحتلال استراحة طويلة وفرصة لالتقاط انفاسه وتوسيع مستوطناته وتسمين ميزانيته , في المقابل يحقن في اجسادنا كل يوم سموما قاتلة وعقاقير خطرة ,كأنما السرطان الخبيث ؟؟
يقولون ان هناك من يستفيد من الانقسام !! نكتة سمجة جدا . من يستفيد من الالم والجرح والقرف سوى من سقطت مروءته وبانت عورته ؟.

يقولون بأننا نحن الفلسطينيون بارعون في تقسيم التامات وتجزئة المتكاملات واختراع الخلافات وابتداع المتناقضات , تواقون الى الزوايا الاحادية , متعطشون للتمايز , محبون للشعارات , عاشقون للتباهي والتفاخر !!في نفس الوقت عاجزون عن نظم صفنا المبعثر الذي تآكل بفعل عوامل التعرية السياسية والاجتماعية..عاجزون عن بلورة استراتيجية وطنية تخرجنا من رحى التناقضات الحزبية .

تحميل التعطيل المصالحة اصبح سمة لازبة ولازمة تعج بها صفحات الجرائد , حتى بات الناس يقرأون عن التعطيل والمعطلين أكثر مما يتحدثون مصالحة غير موجودة , وبدأوا يتهامسون ويتندرون : من بالفعل يعطل المصالحة , ثم يستدركون :وهل هناك مصالحة حتى تعطل !!
لأنها اصبحت مثل الغريبة المنبوذة , فقد خشيت ان اكتب عنها حتى لا يقال انني "أحج والناس راجعة"!! . الناس ما عادوا يذكرونها الا لماما , وما عادت تحب سيرتها المترعة بالفشل والإحباط , لكني اصررت ان اكتب عنها لأنه بدونها لا طعم للحياة ولا مستقبل لأجيال , وربما ما نبنيه بدونها هو ضرب من إشباع الذات.

لقد أصبحت المصالحة لغزا عصيا على الفهم , حتى بتنا نسأل انفسنا : هل المشكلة في المصالحة ذاتها ام في المتصالحين ؟ أم في كليهما ؟.
ان التحليل المنطقي والعقلاني لمجريات المصالحة ومحطاتها وجولاتها يقود الى استنتاج بديهي الى انها منذ بدايتها تسير في اتجاه خاطئ معكر مشوش, وإلا لماذا هذا العرج والعوج والتعثر لأكثر من ست سنوات ؟ , لماذا لم تحبُ بعد  على قدميها ولم تتعلم النطق , ولماذا لم تخرج من رحم ضاق بحملها ؟

 ان الشيء الذي يولد قويا يستمر قويا , اما الذي يولد هشا ضعيفا منهكا بالأمراض فانه يبقى طوال حياته عليلا يدور بين المشافي , وقد لا يغادرها !!

للأسف فان المصالحة ولدت بعملية قيصرية , لذا فقد جاءت الى الدنيا عليلة سقيمة , وأرضعت بحليب الشكوك والهواجس , وغذيت بماء الصراع الخفي ( الملوث) , وترعرعت في اجواء معكرة ,وتأرجحت بين مد وجزر , فكيف لها ان تستقيم على سوقها أو ان  تنمو كما ينمو الاصحاء ؟ انها معادلة مستحيلة تتعارض وسنة النمو لكل الكائنات الطبيعية التي تحتاج تربة نظيفة وهواء نقيا وماء صافيا.

ان "أطباء " المصالحة يجب ان يكونوا من الذكاء والحذق بحيث يدركون ان المسكنات التي تعطى لهذه المريضة لن تقيمها على قدميها ما لم يشخصوا مرضها الحقيقي وما لم يصارحوا انفسهم بان ظاهر المصالحة غير باطنها . الشعوب لا تحب لأحد ان يكذب عليها او يمنيها أو يبقيها على رصيف الانتظار تحت الحر والقر.

فقط اسوق هذه الاستنتاجات من باب العصف الفكري :
(1) ثبت بالتجربة والواقع ان المصالحة تبلغ من الضعف والهشاشة ما يجعلها لا تصمد ولا تقوى امام حصاة صغيرة,!! لقد توقفت قلبها عن الخفقان في محطات كثيرة ولأسباب واهية وأحيانا غير معروفة . انها مثل المريض الذي لا يحتمل التعرض للهواء خوفا من اصابته بفيروسات عابرة . لقد تعطلت تارة  بسبب زوبعة اعلامية وتارة بسبب اعتقال مواطن وتارة من اجل "حسبة " ضيقة, وتارة من اجل لا شيء!!  . ان المصالحة التي سرقت منا 6 سنوات واستنزفت منا عشرات اللقاءات والمؤتمرات الصحفية , وشارك فيها قيادات وطنية من الصف الاول واحتضنتها عواصم كبرى,  ثبت انها قامت منذ البداية على أرجل من خشب وجسور مهترئة ( رغم كل الاوراق والاتفاقات ), وثبت ايضا ان اللقاءات الحميمة والماراثونية ورحلات "الحج" الى القاهرة لم تمنح هذه المصالحة العجوز أي نوع من انواع الصمود او البقاء اللهم الا مسكنات للوجع وأدوية ضد التجاعيد وحبوب لمنع فقدان الذاكرة !! ان تغطية الورم بالمسكنات والمهدئات سيوصل المصالحة الى الغيبوبة الطويلة , وربما يتم تحنيطها ووضعها في قالب زجاجي يتفرج عليه الجمهور في متحف الاخفاقات الوطنية مجانا !!


(2) ثبت ايضا ان احدى مواطن الاخفاق  يكمن في " الفشل الاداري" ...ادارة حوارات المصالحة لم تنجح في شق طريق لتنفيذ بند واحد فقط من بين اتفاقات وتفاهمات كثيرة , وبقيت المصالحة حبرا على ورق مدسوس في الادراج. وهنا يبرز العوار والخلل . فالقيادات تأتي الى القاهرة وهي محملة بأمل ان تخرج باتفاق او اختراق , نفاجأ بحالة الانتكاس في كل مرة  .لماذا ؟ لان القيادات  تفاجأ في كل لقاء مرة  ببروز عشرات الاسئلة والتفاصيل الجديدة التي تحتاج الى اجابات وتفريعات وتفصيلات , كان من المفترض ان تكون قد طبخت وأنضجت من قبل طواقم فنية تجهز وتحضر لاجتماع صناع القرار . في كل لقاء تبرز أسئلة جديدة : هل المجلس التشريعي جزء من الوطني ؟ هل نعتمد النسبي ام الدوائر ؟ هل نخرج بدائرة واحدة ام بدوائر؟ كيف يمكن ان نحضر السجل الانتخابي لفلسطيني الشتات , هل القضايا تعالج رزمة واحدة ام بالتدريج , هل الحكومة وفاقية او تكنوقراط ..هل وكيف ومتى واين....الخ . ان مرور ست سنوات كانت كفيلة بانجاز كل هذه  الاجابات والتفاصيل من خلال طواقم فنية . لم يكن هناك حاجة لإغراق القيادات " الكبار" في كل هذه التشعبات في لقاءات قصيرة ومحدودة . 

(3) احدى منغصات المصالحة انها تسير " بالتقسيط" الطويل الممل . تنشط ثم تخمل , تعلو ثم تهبط , تسير ثم تتوقف . لم يجهد المتصالحون في ابقاء جذوتها مستمرة متواصلة . يحرد هذا الطرف فتتوقف ويزعل الاخر فتتجمد . ويوم ان تبدأ جولة جديدة تجد ان بعض القضايا عادت الى المربع الاول , وهكذا يضيع الزمن ويتبدد الجهد وتزداد حالة الاحباط والفشل ... انه فشل اداري من الطراز الاول !!لا يمكن للمصالحة ان تنجح بسياسة التقسيط طويل الامد . انها ليست شقة للبيع ولا مشروعا استثماريا , انها قضية وطن وشعب وأجدر بالمصالحة ان تكون اسرع من الصاروخ في انطلاقها .

(4) ثبت ايضا ان اسلوب "تحميل التعطيل" في الاعلام ليس مجديا وليس مقنعا للجمهور . فالمواطن لا يريد ان يسمع مبررات ولا حجج . هو يريد ان يرى نتائج فقط . حتى تفسير التعطيل غالبا ما يأتي في ثوب سياسي وصراع حزبي يضعف من قدرة طرف على افحام خصمه . تهمة التعطيل تحتاج الى جهة محكمة ذات مصداقية ودراية ونزاهة حتى يمكن ان تعطي الحكم الصحيح .

(5)  ان مشكلة الرئيس ابو مازن في موضوع المصالحة هو غلبة الهواجس والتردد والحسابات الكثيرة . هناك من يوسوس له بان حماس ستفوز في انتخابات المجلس الوطني ومن ثم ستفقد فتح منظمة التحرير , وهناك من يؤلبه على ان دخوله معترك المصالحة سيعرقل احلامه الكبيرة في تحقيق السلام مع اسرائيل.الرئيس يضع قدما في المصالحة الهشة وقدما في مسيرة السلام المتعثرة . تارة يرفع هذه وتارة يضعها , تارة يقدم بقوة وتارة يتأخر ويتردد .كما ان هناك من يبث في اذنه انه سيتحمل اعباء مالية كبيرة في حال توليه رئاسة الوزراء بسبب انضمام موظفي غزة الى مسئوليته,  وهناك من يوهمه بان حماس ستحتفظ باموالها وستدعه يغرق في وحل الرواتب ومشاكل الكهرباء وغيرها .وهذه كلها ترهات لا ينبغي الالتفات اليها او وضعها في الاعتبار . ان فاتورة المصالحة ستدفع من جيب الجميع لانها تقوم على اساس الشراكة الحقيقة في تحمل المسئوليات والتبعات , ومن هنا فانه لا مكان للشكوك ان تحتل كرسيا على مائدة المصالحة .

(6) افشال المصالحة جريمة وطنية ترقى الى مستوى جرائم الحرب . 


(7) من الغريب ان العامل المشترك لكل من مسيرة المصالحة ومسيرة السلام هو الفشل .
(8)  ليس من الحكمة والعقل ان نعتقد اننا – ونحن نعيش تحت ظروف استثنائية صعبة متقلبة ,وتحت حراب الاحتلال وتحت معضلة الشتات وتحت سيف فقدان الثقة - يمكن ان نحل المشاكل كلها بشكل نموذجي : ان نعقد انتخابات المجلس الوطني , او نجري انتخابات بمواصفات عالية او نشكل حكومة فعالة , او نعيد بناء الاجهزة الامنية ضمن رؤية وطنية , او ننفض المنظمة نفضا جذريا ونعيد تركيبها من جديد .صحيح أنها متطلبات لا يمكن التنازل عنها , لكن العقبات امامها أكثر من المؤملات , واذا لم نقم بتقدير الامور بشكل موضوعي وضمن حسابات الواقع وضمن فقه التوافق والتطبيق المتأني المتدرج  فلن نصل الى شيء . افتراض : لو قمنا بعقد انتخابات نزيهة وفازت بها حماس او فتح بأي نسبة كانت , فهل من مفر من التوافق  باعتبار انه المخرج الوحيد لإدارة الاوضاع . حماس سيكون من الصعب عليها – فيما لو فازت-  ان تمارس سلطة حقيقية في الضفة الغربية .وقس على ذلك امكانية اجراء انتخابات وطنية في الشتات, أو قدرتنا على صياغة أجهزة وعقيدة أمنية وطنية تحت حراب الاحتلال .  ان كل المؤشرات والوقائع تقول لنا بان " فقه التوافق " هو أفضل خيار وخير مخرج  , لان منطق فرز الامور على اساس "الابيض والاسود" لن يفلح في معالجة الازمات .

(9)  نحن بحاجة الى حالة هدوء لاعادة تقييم مهني وموضوعي لمسيرة المصالحة من خلال ازالة الاعشاب الضارة (عوامل الفشل ) ووضع محرك جديد يدفعها على السكة .

(10) لان الانقسام( كما هو الاحتلال) لا مستقبل له , فان الأمل قائم وستتم المصالحة يوما ما عاجلا أم اجلا , لكن خسارتنا في الزمن ..الزمن الذي هو الحياة التي نصنع منها الحاضر والمستقبل .