مصر في أعسر اختباراتها بقلم : خيري منصور

مصر في أعسر اختباراتها      بقلم : خيري منصور
مصر في أعسر اختباراتها بقلم : خيري منصور

مصر في أعسر اختباراتها    

بقلم : خيري منصور

لم تكن مشاريع التنوير والنهوض في مصر يسيرة، لهذا لم يبالغ د . رفعت السعيد حين قال إن تلك المشاريع كانت تمر من ثقب أبرة . أما المصدات التي طالما أعاقت تلك المشاريع فهي ليست خارجية فقط، كالاحتلال والوصاية الأجنبية، إنها أيضاً محلية ومن داخل البلاد، ففي عام 1904 وهو عام حاسم سواء في المؤتمر القومي الأول الذي عقد بباريس أو من خلال المقايضات الكولونيالية بين الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي حول البعض زواج الشيخ علي يوسف إلى قضية وطنية بديلة سرعان ما طغت على القضية الأم وطفت على سطح المشهد، وتكرر هذا في عشرينات القرن الماضي بعد صدور كتب منها “في الأدب الجاهلي” لطه حسين و”الإسلام وأصول الحكم” لعبد الرازق بحيث اتجهت الأنظار إلى هؤلاء الرواد بينما كان الحراك الوطني من أجل الجلاء في ذروته، وخصوصاً بعد صدور وعد بلفور عام ،1917 والحكاية ليست جديدة . ففي زمن العزيز لم  تكن قصص البطولة الاسطورية إلا غطاء لواقع يمور بالمتغيرات، تماماً كما اخترع الوزير ابن الفرات في العراق حكاية طائر الزبزب الذي يخطف الأطفال ولا يمكن طرده إلا بأن يخرج الناس إلى أسطح البيوت ويطرقوا ما لديهم من الأواني النحاسية، لأنه كما تقول تلك الخرافة يخاف من الرنين الأصفر .

 

وثمة أحداث أخرى من هذا الطراز استخدمت لصرف الانتباه عن بؤرة الحدث السياسي منها السفاح في مصر الذي كتب عنه نجيب محفوظ روايته الشهيرة “اللص والكلاب”، ومنها أيضاً حكاية “أبو طبر” في العراق الذي يغزو البيوت برفقة زوجتيه ويقتل الناس ويسرقهم، وإن كان هذا البطل الوهمي لم يجد نجيباً كمحفوظ يكتب عنه حتى اليوم .

 

كان التنوير في مصر منذ بواكيره متعثراً ولا يجد الآفاق والمجالات الحيوية كي ينمو ويتمدد، لهذا لقي المهاجرون الشوام وفي طليعتهم عبدالرحمن الكواكبي في القرن التاسع عشر مصائر مأساوية، وبالرغم من ذلك أنجزوا في المسرح والفنون والصحافة ما هو باقٍ حتى اليوم، ومنهم أبو خليل القباني والإخوان تقلا وفاطمة اليوسف وجورحي زيدان وآخرون .

 

لكن جدلية التنوير والاظلام لم تتوقف في محطة ما كي تحسم لمصلحة أحدهما، فالتنوير بعقلانيته والوعي الذي يبثه والهوية الوطنية والحضارية التي يدافع عنها عابر للأزمنة وكذلك للمصدات والعوائق، لكنه يخسر الكثير جراء العصي الغليظة التي توضع في دواليبه .

 

عاشت مصر اختبارات عسيرة لموروثها المدني والحضاري وكذلك القانوني، وكانت كلما كبت عاودت النهوض لكن وهي مثخنة بالجراح، بحيث يصح عليها ما قاله المتنبي الذي مر بها وعانى من الاخشيدي إن السهام لا تطال الجسد لأنها تقع على سهام أخرى تغمره وتغطيه .

 

لكن أعسر اختبار هو ما تخضع له مصر الآن، فهي على مفترق طريقين لا ثالث لهما، إما التمدن واللحاق بالعصر أو الانكفاء في شرنقة ما قبل القرن التاسع عشر .