التعذيب الديمقراطي
افتتاحية صحيفة الخليج
لا يَعد الغرب، على ما يبدو، التعذيب إن جرى على أيدي البلدان الديمقراطية تعذيباً، بينما يدان بكل قوة وربما تفرض العقوبات على من يمارسه إن لم يُعد بلداً ديمقراطياً . الديمقراطية بهذا الشكل تصبح أيديولوجية يصنع المتطرفون من دعاتها ما يصنعه أمثالهم من المتطرفين من أنصار الأيديولوجيات الأخرى، وهي لا تعدو في نهاية المطاف أن تكون ترجمة أمينة لمفهوم الغاية تبرر الواسطة . هذا هو المفهوم الذي نشأ في حضن الحضارة الغربية، وهو الذي يمارس من قبلها على امتداد قرون في أنحاء المعمورة .
التقرير الذي نشرته صحيفة “الغارديان” يكشف أن “البنتاغون” عين مسؤولين أمريكيين من أجل إقامة مراكز للتوقيف والتعذيب في العراق، جرى فيها أبشع أنواع التعذيب من أجل الحصول على المعلومات من المعتقلين، وبإشراف هؤلاء المسؤولين . هذا التقرير يؤكد لكنه لا يفاجئ المتابع للأحداث في العراق، فمن يشنّ الحرب بذرائع كاذبة ومفتراة، لا يمكن أن يتورع عن ارتكاب الأشياء الشائنة الأخرى .
الحرب هي أم الشرور، والشرور الأخرى مثل التعذيب تنجم عنها . فمن يستعمل الصاروخ لكي يُصدر “الديمقراطية” لن يرعوي عن ممارسة التعذيب لتحقيقها . وبهذه الطريقة فإن الديمقراطية تصبح لدى الذين يتعرضون لأذاها شرّاً ينبغي الابتعاد عنه . ودعاة الديمقراطية الذين يرتكبون الجرائم باسمها لا يختلفون عن دعاة الأيديولوجيات الأخرى الذين بتطرفهم يسيئون إلى معتقداتهم حينما يرتكبون الأعمال غير الأخلاقية باسمها .
مع ذلك، فإن الديمقراطية ليست إلا غطاء لأهداف أخرى ومآرب مختلفة، فكما أن المتطرفين يحملون الشعارات الجميلة من أجل تحقيق الوصول إلى السلطة، فإن الذين يشنون الحروب باسم الديمقراطية لا يهمهم من أمرها سوى مدى سترها لأغراضهم الحقيقية . كان هذا صحيحاً حينما شنت البلدان الغربية حروبها الاستعمارية باسم التمدين والتقدم، وهو صحيح اليوم حينما تشن الحروب باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان .
كذلك، فإن طريقة تعامل البلدان الكبرى مع جرائم جنودها ومسؤوليها تضيف أدلة جديدة إلى الطبيعة المؤسسية لهذه الانتهاكات لحقوق الإنسان من اعتقال عشوائي وتعذيب وحشي . وإذا كانت الشعوب هي الخاسر من مثل هذه الانتهاكات، فإن حقوق الإنسان والديمقراطية أيضاً تخسر قيمتها في عقول الناس .
عن الخليج
