معايير شرعية الحكم بقلم : عاطف الغمري

معايير شرعية الحكم   بقلم : عاطف الغمري
معايير شرعية الحكم بقلم : عاطف الغمري

معايير شرعية الحكم 

بقلم : عاطف الغمري

هناك تقليد يحرص عليه أي رئيس أمريكي خلال فترة حكمه، بأن يحقق إنجازاً سياسياً استثنائياً، ينفرد هو به، حتى يبقى ذلك صك شرعية حكمه، ولو من بعد تركه موقعه في البيت الأبيض . وهم في أمريكا يصفون هذا التقليد، بأنه اهتمام من الرئيس بأن يفتح لنفسه صفحة، في سجل تاريخ الرؤساء العظام في بلاده .

 

هذا السلوك أخذ يظهر في أداء رؤساء في الدول الصاعدة في آسيا، وأمريكا اللاتينية، وحتى لا يكون مجيئهم إلى الحكم لحظة عابرة، لا يجد التاريخ لهم فيها ما يستحق الذكر .

 

وعلى سبيل المثال، فإن اسم لولا دي سيلفا، في البرازيل، يظل نموذجاً يتردد ذكره داخل بلاده وخارجها، حتى من بعد تركه للسلطة، لما حققه لبلاده من إنجاز اقتصادي، وعدالة اجتماعية، ومكانة سياسية للدولة، في فترة قصيرة، صعد خلالها ببلاده التي كانت فقيرة، لتصبح واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم، وهناك غيره كثيرون .

 

صحيح أن أي رئيس يصل إلى الحكم، يكون قد فاز بأغلبية الأصوات في صندوق الانتخابات، لكن منهم من وعى أن شرعيته المستدامة، تبقى رهن إنجاز يحققه في فترة رئاسته، فإما أن ينجح في تحقيق هذا الإنجاز فتتأكد شرعيته، وإما أن يفشل، فتتآكل الشرعية، أو تصبح بلا أثر، وكأن رئاسته كانت فترة ضائعة، في تاريخ بلاده .

 

من ثم لا يمكن أن تنحصر الشرعية في الرئيس كشخص فاز في الانتخابات، بل في ما يرمز إلى الشرعية، ويؤكدها كواقع ملموس، وهو نوع الإنجاز الذي يأتي على يديه، والذي يكون استجابة لمطالب وأماني شعبه، وفي إطار فترة زمنية محددة، لها ظروفها ومتطلباتها . وهذا شيء لا يتحقق إلا حين تتوافر شروط معينة، اتفق عليها خبراء مختصون، ورؤساء وزعماء في كتاباتهم، منهم أيزنهاور، ومانديلا، وهافل، وغيرهم، منها:

 

1- أن ينجح الرئيس في تشكيل مؤسسة الرئاسة  المعاونة له  من فريق قوي متنوع في آرائه واتجاهاته، مستنداً إلى الخبرة، والمعرفة، والتخصص، ولدى كل منهم تاريخ من التفوق في مجاله وفي الشأن العام، وأن يكون لدى كل منهم ثقافة الإلمام بطبيعة وخصائص الشعب في الداخل، والإحاطة بما يجري في الخارج من تغييرات وتحولات، لأن الدولة في عصرنا هذا لا يمكن أن تدار كجزيرة منعزلة، بل كوحدة ضمن وحدات تشكل المجتمع الدولي .

 

2- أن تكون لدى الرئيس رؤية لنفسه وللدولة، ولعلاقاتها بالعالم المحيط بها إقليمياً ودولياً . وذلك وفق استراتيجية شاملة قادرة على الحشد المجتمعي المتناسق والمتكامل الذي لا يستطيع النظام من دونه، أن ينجز أي سياسات للإصلاح والاستقرار .

 

وإذا نظرنا إلى الحالة المصرية الآن على ضوء هذه المفاهيم للشرعية، نجد أن المصريين قاموا بثورة في 25 يناير أدخلت البلاد في حالة استثنائية، كان لابد أن تتوافر لها، شروط للحكم والإدارة، تتناسب مع هذه الحالة . فمصر لاتزال تعيش ظروف مرحلة انتقالية بكل المقاييس، لا تصلح لها أساليب الحكم وإدارة السياسات التي تتخذ في الظروف العادية للدول، والتي يمكن أن ينفرد فيها حزب فاز بالأغلبية، بتحديد التوجهات العامة لدولة، يفترض أنها في مرحلة إعادة البناء . فالمراحل الانتقالية بخاصة التي تأتي في أعقاب ثورة، أو تحولات كبرى، يلزمها تكامل مواقف جميع القوى السياسية، بحيث تضيف كل منها مما لديها من خبرات، وأفكار، وقدرات، لكي تدور العملية السياسية بشكل سليم، نحو تحقيق أهداف هذه الثورة، وحتى تخرج البلاد من الحالة الاستثنائية التي تظل مرحلة انتقالية، إلى أن يستكمل المصريون أهداف ثورتهم .

 

فإذا افترضنا أن النظام لديه رؤية سياسية، وأنه يعمل وفق استراتيجية شاملة  وهو ما لم يحدث في مصر للآن فإن النظام يظل رغم ذلك عاجزاً عن تحقيق أي خطط أو سياسات، طالما كان هناك غياب لشرط أساسي وجوهري، وهو تمتع النظام “بالرضا المجتمعي العام” . فإن أي دولة تضع لنفسها خططاً للتنمية الاقتصادية والإصلاح السياسي والاجتماعي، لم تكن لتستطيع أن تحقق ذلك، إلا عندما توافرت لها الثقة من جانب الشعب، والرضا المجتمعي الذي يجعل المواطنين، يحشدون طاقاتهم، وراء اكتمال خطط التنمية والإصلاح، فهم في النهاية، المشاركون في التنفيذ، إما بدفعه إلى الأمام، وإما بتعطيله لو أرادوا .

 

إن المرحلة الانتقالية، التي تعقب أي ثورة، تتكاثر فيها التحديات الداخلية والخارجية، أمام الدولة، ولا يستطيع أي نظام بسياساته وقراراته، أن يكون على مستوى مواجهة هذه التحديات، إذا عجز عن جذب مختلف القوى السياسية نحوه، وإقناع المواطنين بالثقة به، بناء على الأفعال وليس مجرد الوعود والكلام، وإلا فإنه يكون قد انسلخ بنفسه عنهم، ونزل منفرداً إلى ساحة يواجه فيها، تحديات، أكبر من قدرته على التعامل معها .

 

والملاحظ أن الفترة التي مرت ولاتزال مستمرة في مصر، منذ تشكيل حكومة ثبت أنها بلا رؤية أو فكر استراتيجي، بينما الفشل يتوالى على يديها، دون أن تكون لديها قدرة على إخراج البلاد من مأزق التردي الاقتصادي، والانفلات الأمني، والانقسام المجتمعي، فإن النظام رغم ذلك كله، يتمسك ببقائها، في سلوك ينتقص به هو نفسه، من شرعيته .

 

ولما كان الإنجاز الذي يستجيب لأهداف ثورة لم تخمد جذوتها بعد في صدور المصريين، هو السند الحقيقي للشرعية، فإن الأداء الحالي للسياسات الحكومية، يباعد ما بين النظام، وبين الوصول إلى هذا الإنجاز، أي صك الشرعية .

 

وعلى سبيل المثال، فإن إنقاذ البلد، وقبل ذلك إنقاذ شرعية النظام، كان يقتضي من منظور الحكمة، والمنطق السياسي، أن تسارع الرئاسة وهي تواجه تحديات، تهبط بالأوضاع الداخلية في كل مجال، إلى تكليف شخصية سياسية لها رؤية ناضجة، وتاريخ سياسي وطني، وخبرة، ومعرفة، تشكيل حكومة، تجمع لها وزراء من العناصر المتفوقة في مجالاتها، والمشهود لها بالقدرة على فهم الإدارة لحديثة، ومعنى كفاءة الحكومة، لكي تبادر فوراً ومن دون تأخير، إلى إدارة شؤون البلاد، وفق سياسات يعرف أصحابها كيفية حكم وإدارة دولة .

 

ولو كان ذلك قد حدث، لما ظلت الهموم والمشكلات تتراكم فوق بعضها، ولخرجت مصر من المحنة التي تعيشها، ولكسب النظام نفسه شرعية الإنجاز باتخاذ القرار الحكيم، بدلا من نظرة “الإنكار” لحقيقة الحالة المصرية، في إصرار غريب بأن كل شيء على ما يرام .