شجاعة الجاهل بقلم : مصطفى الفقي

شجاعة الجاهل  بقلم : مصطفى الفقي
شجاعة الجاهل بقلم : مصطفى الفقي

شجاعة الجاهل

بقلم : مصطفى الفقي

تروي كتب الطرائف التاريخية أن والي مصر عباس الأول خرج ذات يوم مع بعض حاشيته في رحلة قصيرة إلى الصحراء ووصل إلى نقطة وجد فيها بعض الأعراب من بدو الصحراء يتحلقون حول لعبة للتسلية في الرمال هي أقرب إلى ما نطلق عليه الآن لعبة “السيجة” وهي (شطرنج الفقراء)، فقال لهم أحد رجال الحاشية هذا هو أفندينا عباس الأول فلم يحركوا ساكناً وواصلوا اللعب وقال أحدهم بغير اكتراث “كيف حالك يا عباس؟” وأدرك الوالي لحظتها أنهم لا يعرفون قيمته ولا مكانته ويتصرفون بشجاعة تلقائية هي تلك التي نطلق عليها “شجاعة الجاهل” ويومها قرر الوالي “أن هؤلاء لا يخدمون في جيش أفندينا فهم لا يستحقون ذلك الشرف” .

ولقد ظل البدو لعدة عقود إحدى الفئات التي ينطبق عليها الاستثناء من الخدمة العسكرية في الجيش المصري مثل حفظة القرآن الكريم ودافعي البدلية (وهي جُعل مالي يدفع لخزينة الدولة للإعفاء من الخدمة العسكرية حينذاك) إضافة إلى أبناء العمد والمشايخ، أقول ذلك لكي أبرهن على أن من لا يعرف قد يتصرف بشجاعة تحسب له، بينما هي محسوبة على جهله ونقص معرفته، فهو كالطفل الصغير الذي يضع إصبعه في النار ولا يدرك خطورتها إلا عندما تلسعه .

وكان الكاتب الراحل كامل زهيري نقيب الصحافيين الأسبق يقول إن هناك نوعين من الصحافيين، نوعٌ قوي في الكتابة ونوعٌ آخر قويٌ على الكتابة قاصداً بالنوع الأخير ذلك النمط من الكتاب الذين يكتبون كلاماً غثاً ويستطردون في نفاق الحاكم مع الاستقواء به على سطورٍ مطبوعة بلا مضمون، فأولئك هم الذين يقهرون الكلمة وهم لا يجيدون حرفة الكتابة، ولكن يتصدون لها في “شجاعة الجاهل” .

أقول ذلك كله لكي أدلل على ظاهرة غريبة وفدت على حياتنا في السنوات الأخيرة وأعني بها ما أراه في المشهد السياسي من محاولة اقتحامه من بعض الشخصيات لاستعراض العضلات وإطلاق التصريحات والحديث بلا وعيٍ أو خبرة، بل إنني أحيانًا أشعر بدهشة تصل إلى حد الذهول عندما أستمع إلى “عنتريات” غير مدروسة وأفكارٍ غير مهضومة مع إقدام شديد للبحث عن دور في ظروف غير طبيعية لمن افتقدوه في الظروف الطبيعية، ولعلي أطرح هنا الملاحظات التالية:

* أولاً: إن الشعب المصري تركيبة إنسانية ذات خصوصية لأن الموقع الجغرافي والسياق التاريخي جعلا من “الكنانة” نقطة التقاء بين ثقافات وهجرات، وملتقى أفكار وحضارات، ولا يمكن اختزال ذلك كله من خلال عملية تسطيحٍ لا تدرك أبعاد هذا الوطن أو أعماقه فمصر أكبر وأعرق وأخطر من معظم بلدان الدنيا لأنها بلد سهل في ظاهره هادئ في مجمله ولكنه شعبٌ “بركاني” في باطنه، ثائر في جوهره، والذين لا يدركون ذلك لم يقرأوا التاريخ ولم يلتمسوا دروسه ولم يفهموا الشخصية المصرية التي تقبل في ظاهرها ما قد ترفضه في داخلها .

* ثانياً: إن العمل السياسي ليس “حرفة فراغ” ولا مهنة “نهاية الخدمة” إنه استعدادٌ وتدريبٌ وخبرة، لقد رأيتهم هناك في بريطانيا ذات صباح عام 1975 يأخذون “مارغريت تاتشر” وزيرة التعليم من مقعدها إلى المنصة ليعلنوا رئاستها لحزب “المحافظين” في مؤتمرهم حينذاك بمدينة “بلاكبول” لكي تصبح بعد ذلك رئيسة الوزراء ربما لأطول فترة في تاريخهم الحديث، ولتدخل بعد ذلك في سجل الخالدين لكي تنافس السياسي البريطاني الراحل الداهية “ونستون تشرشل” في الأهمية من خلال استطلاعات الرأي العام، على نحو يؤكد أن تصعيد “تاتشر” بطلة استعادة جزر “الفوكلاند” بالبحرية البريطانية على بعد آلاف الأميال عند سواحل “الأرجنتين” تأكيد لإرادتها القوية وقرارها الحاسم، فلقد كانت بحق هي “المرأة الحديدية” . . أسوق ذلك لكي يدرك الجميع أن التصعيد السياسي ليس انتهازية شخصية ولا مواقف استعراضية، ولا حركات مسرحية، إنه دراسة ميدانية وخبرة شخصية مع استعداد فطري للقيادة الشعبية، فأين نحن الآن من كل ذلك؟

* ثالثاً: أقول جازماً إن المسرح السياسي المصري الذي ينقسم أبطاله في المشهد الواحد لا يعبر بدقة عن الشارع المصري، وأنا أتحدى أي فصيل سياسي موجود أن يتمكن من إيقاف حركة العنف في لحظة معينة لأن الحلقة مفقودة بين صيحات المؤتمرات الصحفية وحركة الشارع من تظاهرات واعتصامات وإضرابات لا تخلو في معظمها من عنف لا مبرر له، إن الثورة المصرية تعرضت لحالة من الانفصال الشبكي أو “الشيزوفرينيا” الشخصية فاتسمت بحالة من الازدواج الذي عانته ثورات كثيرة عبر التاريخ، فالذي زرع ليس هو من حصد، كما أن من قاموا بها لم يعودوا أصحابها، فتوزعت الدماء بين القبائل كما قالت العرب، وتبعثرت الآمال وغابت الأهداف واختفت الرؤية وسط ضجيج الأصوات العالية والشعارات الزاعقة والعبارات الرنانة والأفكار غير المدروسة .

* رابعاً: إن انقسام الشارع المصري بين تيارات “الإسلام السياسي” وقوى الدولة المدنية هو انقسام سياسي في ظاهره ولكنه قد يكون انقسامًا طبقيًا في مضمونه، كما أن المعسكرين منقسمان داخلياً أيضاً فالتيار الإسلامي الذي يحكم لا يقدم “خارطة طريق” واضحة، كما أن “جبهة الإنقاذ” هي أقرب إلى حالة “الاصطفاف” الشكلي منها إلى مفهوم النضال السياسي، وأرى أن المشهد السياسي يبدو عبثياً في كثير من المناسبات، فالتراشق بالكلمات لا بالأفكار، والصراع بين أشخاص لا بين سياسات، فالليبراليون يسعون إلى إزاحة جماعة “الإخوان المسلمين” عن الحكم الذي وصلوا إليه بصندوق الانتخابات، وفي الوقت نفسه فإن أولئك الليبراليين لا يصلون إلى القرى والكفور والنجوع ويكتفون بالمؤتمرات الصحفية ومخاطبة الشرائح العليا من المجتمع دون الوصول إلى الفقراء فأولئك هم المعذبون في الأرض .

* خامساً: لا أكون واهماً إذا قلت إن التقاء القوى السياسية من جميع الأطياف على خلفية “الوطنية المصرية” الخالدة يمكن أن يحل جزءاً كبيراً من المعضلة وأن يدفع بالمشهد السياسي إلى العمل الجاد بدلاً من القول الفارغ وأن يدعو كل فصيل لكي يقدم أفضل ما لديه خدمة لوطنٍ كبير وشعبٍ عرف المعاناة وذاق المرارة عبر العصور، أقول ذلك وعيني على شعبية ثورة 1919 وحزم ثورة 1952 وبالمناسبة فإنني لا أفترض في أي منهما الكمال، ولكن وحدة الشعب المصري وتجانسه كانا أمراً لا يختلف عليه أحد، وبالمناسبة أيضًا فإنني ألمح أحياناً بعض الإيجابيات، فقرار الرئيس الدكتور مرسي  على سبيل المثال  بتعديل موعد الانتخابات النيابية احتراماً لأعياد الأشقاء “الأقباط” هو في ظني أول رسالة إيجابية ألمحها في الشهور الأخيرة .

 . . حمى الله الكنانة وشعبها الطيب الذي يريد “لقمة العيش” ويتطلع إلى الدولة الآمنة دولة “العدالة الاجتماعية”