ديمقراطيات ما بعد “الربيع العربي” بقلم : عبدالزهرة الركابي

ديمقراطيات ما بعد “الربيع العربي”     بقلم : عبدالزهرة الركابي
ديمقراطيات ما بعد “الربيع العربي” بقلم : عبدالزهرة الركابي

ديمقراطيات ما بعد “الربيع العربي”   

بقلم : عبدالزهرة الركابي

بدأت إشكالات كبرى تواجه المجتمع العربي في أعقاب الثورات العربية، من خلال محاولات البحث عن أشكال جديدة للديمقراطية، تتماشى مع نوازع الأحزاب الحاكمة، وهي تتمثل في اتجاهات ضاغطة تنحو الى الأنانية والاستئثار بالسلطة، وقد ارتدت لبوسات سياسية، لها انطلاقات ذات أبعاد دستورية ناظمة كأشكال وتصورات متداخلة، تتبناها بعض القوى الحاكمة في مرحلة ما بعد الثورة .

وهذه القوى الدينية تحديداً، راحت في تصوراتها تُبشر بقدرتها على المزواجة بين الإدارة الدينية والسياسية، ما شكل أزمة ساخنة في الأوساط المنادية بالحداثة السياسية التي فوجئت أصلاً بمثل هذه الطروحات المتقابلة: الديمقراطية المؤمنة في مقابل الديمقراطية العلمانية، والديمقراطية التكافلية بالضد من الديمقراطية الرأسمالية، وكذلك الديمقراطية الأصيلة في مقابل الديمقراطية التغريبية . 

وما دامت الحداثة السياسية ترتبط عضوياً بمسارات التحديث على مختلف صنوفها، فإن هذا التحديث في أبعاده الفكرية والاجتماعية والقانونية المتشابكة والمتداخلة، يواجه ليس إشكالات عملية مستجدة وحسب، وإنما يواجه مشكلة المشكلات التي تتعمق بالعملية الإجرائية والتنفيذية بالنسبة للمسار الديمقراطي، أي أن القوى التي انتهزت الفرصة التي أتاحتها، بل فرضتها، هذه الثورات للدخول من نافذة الديمقراطية، ومن ثم الالتفاف على روح الديمقراطية من خلال طرح (نماذج ديمقراطية) تحايلية، ترتبط بنفس الاستحواذ والاحتكار، عندما تأخذ من الشكل الديمقراطي إطاراً وستارة وتغطية، كلبوس مستحدث على مقاسها، وهذا المقاس من الطبيعي أن تتخلله زخرفة من الشرعية والدستورية وإذا كانت الديمقراطية كياناً عضوياً حيث يولد وينضج في البيئة المتحضرة، مثلما هو يوأد في البيئة المتخلفة، وهو بالتالي يُنتج في المجتمع المتحضر ويُفقأ بؤر التخلف في المجتمعات التي قررت النهوض، بيد أن الأحزاب الإسلامية التي تسلمت الحكم في تونس ومصر عبر  تمخضات ثورات ما يسمى (الربيع العربي) كما هو معروف، تحاول في هذه المرحلة الالتفاف على الديمقراطية التي أوصلتها الى هذا الموقع، بإعتبارها ديمقراطية (كافرة) علمانية . طيب . . وإذا كان الأمر هكذا: كيف أرتضت هذه الأحزاب الإنضواء تحت خيمتها، واتخاذها آلية لتحقيق أغراضها المتمثلة في الوصول الى سدة الحكم؟

إن هذا الارتضاء ينم عن انتهازية سافرة، في حين أن عملية الالتفاف على الديمقراطية، أي على الآلية التي مكنتها من استلام الحكم، هي في حقيقتها عملية انقلاب على شرعية وصول هذه الأحزاب الى الحكم نفسها، من واقع أن هذه الأحزاب تحاول طمس شرعية الدولة بالتباسات شرعية المجتمع التي ظلت محل جدل مفتوح بين الدارسين والمعنيين في هذا الجانب، على الرغم من أن الدستوريين المتغربين والدستوريين الإصلاحيين على حد سواء، ومنذ بواكير العام الفائت، قد اتفقوا على اعتبار الإرادة الشعبية المعبر عنها في الدستور والانتخابات، هي أساس شرعية السلطة والدولة .

بل أن الفقيه الدستوري عبدالرزاق السنهوري أوجد حلاً وسطاً للالتباس الحاصل بين شريعة المجتمع وشرعية الدولة، عندما ربط الخلافة بالأمة الإسلامية، واعتبر أن ما يأتي بعدها هو جمعية أمم أو شعوب إسلامية، وأن الحكومات الإسلامية الوطنية تقوم على الشورى والتمثيل، لثلاثة أسباب: الآيات والآثار الواردة في ذلك، ولأن الراشدين أنشأوا نظاماً تمثيلياً اعتبره المعاصرون في القرن الأول أمراً بديهياً ومتلائماً مع ميراث النبوة والرسالة، ولأن العالم كله يتجه نحو النظام التمثيلي وفصل السلطات وتداول السلطة .

والأكثر رداً وإفحاماً وتفنيداً لدعاة (الديمقراطية المؤمنة) هو ما جاء في كتاب (الإسلام والحداثة التأريخية) إذ يقول مؤلفه مصدق الجليدي، إن علمانية المؤمنين، هي العلمانية التي يتبناها المؤمنون عن طواعية ولا تفرض عليهم بالقوّة، كما فرضت الكمالية على المسلمين الأتراك مثلاً، ونضيف هنا أنّه ممّا يخوّل للمؤمنين بناء العلمانية في تصوّرهم لعلاقة السياسي بالديني هو افتقاد كلّ الحكّام في التاريخ الإسلامي لأيّ سلطة دينية مع أنهم هم الذين يعينون القائمين على شؤون الدين من أئمّة وقضاة شرعيين ومفتين، وهذا لا يعني سوى تبعية السلطان الرّوحي للسلطان السياسي تاريخياً، ولكن تحت غطاء حماية الشريعة والعمل بأمرها الذي يتغطى به الحكام المسلمون . 

والعلمنة التي على المؤمنين إنجازها تتمثل في رفع هذا الغطاء وتنسيب أعمال الحكام وجعلها عرضة للتقييم والمساءلة اعتماداً على أمرين، هما: عدم عصمة الحكام من الأهواء وقابلية الشريعة نصاً إلى التّأويل والاجتهاد وروحاً إلى التجديد والتطويع، بحكم حنفيتها ومرونتها، وبالتالي تنسيب السلطة السياسية الناتج عن تنسيب الفكر السياسي وتسوية الحاكم بباقي البشر من الناحية المبدئية باستبعاد أيّ عصمة عنه، اللهم إلاّ ما خوّله له التزامه بروح الدستور ووقوفه عند حدّ القوانين، لنترك مسائل الأخلاق والتقوى في مستوى الإنساني واليومي خارج مقتضيات العمل المؤسسي .