النخبة السياسية في الخبرة العربية ... د.عمار علي حسن

النخبة السياسية في الخبرة العربية ... د.عمار علي حسن
النخبة السياسية في الخبرة العربية ... د.عمار علي حسن

النخبة السياسية في الخبرة العربية

د.عمار علي حسن

تعرض مصطلح «النخبة» لتشويه مقصود في الحياة السياسية التي أعقبت انطلاق "الربيع العربي" لاسيما في مصر على أيدي "الإخوان" وأتباعهم، وكان هدفهم بناء جدار عازل بين "قادة الرأي" والجماهير الغفيرة، حتى يسهل عليهم توجيهها بالطريقة التي تحلو لهم وتحقق مصالحهم. وكان التشويه عميقاً وجارحاً إلى درجة أن كلمة نخبة صارت مصطلحاً سيئ السمعة في أذهان بعض العوام. ولكن هذا الأمر انطوى على شيء إيجابي، يتمثل في اعتراف غير مباشر من "النخبة الحاكمة" آنذاك بأن "النخبة المضادة" أو "النخبة الثقافية" لها تأثير كبير على الجمهور، الأمر الذي فرض على من يحكمون استخدام كل أساليب الدعاية السياسية في مواجهة قادة الرأي.

وكالعادة يتغافل هؤلاء عن كون مفهوم النخبة في الرؤية والخبرة العربية له تاريخ أو جذور غير مباشرة. فالخلافة الإسلامية نُسبت إلى أسر حاكمة، فقيل "بنو أمية" و"بنو العباس" وتحدث القرآن الكريم عن تغير موازين القوة والمعاناة في الدنيا من جماعة إلى أخرى: "إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقوْمَ قرْحٌ مثلهُ وَتِلكَ الأيَّامُ نُدَاوِلهَا بَيْنَ الناسِ وَلِيَعْلَمَ الله الذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء والله لا يُحِبُّ الظالِمِينَ" (آل عمران: 140)، كما تحدث عن تغير توزيع الثروة، ورفض تكدس الأموال في يد فئة قليلة من الناس إلا بإعطاء الفقراء المستحقين: "ما أفَاءَ الله عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَة بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فخُذوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتقُوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العِقابِ" ( الحشر: 7).

وعلى رغم أن الآيتين قد تتصلان مباشرة بقضية توزيع القوة والثروة بين النخب المتعاقبة، فإن استعمالهما في الخطابات الفقهية والحركية على مدار قرون ذهب إلى هذه الناحية، حيث تم استدعاء الآيتين أو الاستشهاد بهما في مواقف ومواضع تخص تلك القضية.

وتجسد مفهوم النخبة بمعناه السياسي المباشر في تجربة "أهل الحل والعقد" الذين يشملون أهل الاختيار، وأهل الشورى وأهل الاجتهاد، إذ لعبوا دوراً كبيراً في صناعة القرار أو تبريره، وكانت لهم مكانتهم الاجتماعية البارزة. واقترب ابن خلدون في مقدمته الشهيرة من الأمر في طرحه لمفهوم "العصبية" التي تقوم على علاقات المصاهرة والقرابة من ناحية، والتحالفات الاجتماعية التي تستند إلى المصالح من ناحية ثانية.

وأخذ السيد عمر في كتابه "الدور السياسي للصفوة في صدر الإسلام" المفهوم إلى منطقة أكثر اتساعاً. وبعد أن رأى أنه لا يوجد نص صريح في الآيات القرآنية وفي الأحاديث النبوية يحدد هؤلاء بصورة مفصلة أو حتى إشارة عامة مجملة، راح يراجع ما جرت عليه السنة العملية في عصر الرسول، عليه الصلاة والسلام، وما جرى عليه العمل من بعده إبان عهد الخلفاء الراشدين، وكذلك ما ذكره كبار المفسرين وعلماء الفقه الإسلامي، ليحدد لنا من هم الذين يمثلون "الصفوة" في صدر الإسلام الأول، مستعرضاً وقائع تاريخية ليثبت من خلالها أن "أهل الحل والعقد" يضمون عناصر أو فئات مختلفة تكونت بطريقة طبيعية تدريجية، وتولدت غالبيتها من قلب أحداث تاريخية مختلفة، ويحددها في أربع فئات، أولها: السابقون الأولون إلى اعتناق الإسلام بمكة. وثانيتها: الممتازون بخدماتهم وتضحياتهم وبصيرتهم وفراستهم. وثالثتها: الذين قاموا بأعمال جليلة في الشؤون العسكرية والسياسية ودعوة الناس إلى الدين. ورابعتها: الذين نالوا شهرة عظيمة بين الناس من حيث علمهم بالقرآن الكريم، والفهم والتفقه في الدين.

وفضل إيليا حريق استخدام مفهوم "السراة" بديلاً لمفهوم "النخبة" لأن الثاني محمل بقيم وسياقات غربية، وأنه حين تمت ترجمة مصطلح أو كلمة Elite إلى اللغة العربية بـ"نخبة" فقد انحرف المدلول وحمولاته، ولبس لبوس الثقافة العربية التي تضع هالة من الخصال الحميدة والتصورات والأفعال الحميدة حول كلمة "نخبة" التي تحال إلى الاصطفاء والانتقاء والامتياز والخيرية وحسن الخلق.

واستند إيليا حريق في طرحه هذا الذي حوته دراسته "السراتية والتحول السياسي والاجتماعي في المجتمع العربي الحديث" إلى ما جاء في قصيدة لشاعر جاهلي هو صلاةُ بن عمرو بن مالك:

"لا يصلح الناس فوضى لا سَراة لهم

ولا سَراة إذا جُهَّالُهم سادوا

تُلفى الأمورُ بأَهلِ الرُّشدِ ما صَلَحَت

فَإِن تَوَلَّوا فَبالأَشرارِ تَنقادُ

إِذا تَوَلّى سَراةُ القومِ أَمرَهُمُ

نَما عَلى ذاك أَمرُ القومِ فازدادو"

وفي الخبرة العربية التطبيقية هناك عشرات الدراسات التي اهتمت بتحديد وتحليل النخبة. ويمكن أن نشير في هذا المقام إلى ثلاث دراسات مهمة منها، الأولى أعدتها مايسة الجمل تحت عنوان: "النخبة السياسية في مصر: دراسة حالة للنخبة الوزارية"، حيث بدأت بدراسة الإطار السياسي والاجتماعي المحيط بالنخبة، ثم راحت عبر بيانات إحصائية، تحلل الهيكل التنظيمي لها، وأنماط تجنيدها، بالنسبة للرئاسة ومجلس الوزراء ومجلس الشعب وجماعات الضغط والمصالح، ورجال الأعمال، والمؤسسة العسكرية. ثم دخلت إلى جوهر الدراسة وهو "النخبة الوزارية في السبعينيات" فحللت وفق عناصر محددة هي: المدنيون والعسكريون، والخلفية التعليمية، المستوى التعليمي، محل الدراسة، والخلفية الوظيفية، السن عند دخول الوزارة والخروج منها، وفترة العمل السياسي السابق على ذلك، ونمط التعيين، والعلاقة بين التخصص الدراسي والمنصب الوزاري، والانتماء السياسي، والمستقر الوظيفي بعد ترك المنصب. وانتهت إلى تحليل شبكة النخبة وفق معطيات محددة هي: الجماعات غير الرسمية، ونموذج الرئيس الملك، ونماذج رجال الأعمال، والسياسيون البيروقراطيون، والتكنوقراط والمهنيون.

والدراسة الثانية للباحثة اليمنية بلقيس أحمد أبو إصبع تحت عنوان "النخبة السياسية الحاكمة في اليمن خلال الفترة من عام 1978 حتى عام 1990"، درست فيها خصائص وسمات وسبل تجنيد أعضاء مجلس الوزراء والمجلس الاستشاري والمحافظين في شمال اليمن (قبل الوحدة)، ولكنها لم تتطرق إلى العلاقات البينية لأفراد النخبة، وطبيعة أدوارها السياسية، وأسباب تصارعها.

أما الدراسة الثالثة فأشمل، إذ شارك فيها باحثون كثر، درسوا النخبة السياسية في أربع عشرة دولة، منطلقين من توصيف الإطار المجتمعي لها، من حيث النظام السياسي والبيئة الاجتماعية والفضاءات الثقافية والأوضاع الاقتصادية التي تحيط بالنخبة، ثم قاموا بتشريح مكوناتها وخصائصها من زوايا الخلفية التعليمية والمهنية والولاءات الاجتماعية والأعمار والأماكن الوظيفية التي انحدرت منها وتلك التي ذهبت إليها بعد ترك المناصب، والتغيرات التي طرأت عليها، والعلاقات المتبادلة بينها وبين النخبة المضادة.