عودة منطق التجزئة بقلم : د. عادل الصفتي !

عودة منطق التجزئة  بقلم : د. عادل الصفتي !
عودة منطق التجزئة بقلم : د. عادل الصفتي !

عودة منطق التجزئة

بقلم : د. عادل الصفتي !

في خضم الاضطرابات التي تهز مصر هذه الأيام يواصل المحتجون رفع الشعارات التي تعبر عن مطالبهم، وتتراوح بين التساؤل عن سبل تحسين مستوى العيش وحرية وكرامة إنسانية التي لم تتحققا بعد من وجهة نظرهم، وبين التنديد بالنظام الجديد والمطالبة بإسقاطه، فيما ذهب آخرون إلى أن الثورة ما زالت مستمرة، مهددين بمعاقبة القوى المضادة للثورة. ولكن من المطالب الصادمة التي صاغها أحد المحتجين المشاركين في مظاهرة بمدينة بورسعيد، التي كانت تحتج على إصدار عقوبة الإعدام من قبل إحدى محاكم القاهرة على متهمين من المدينة لتورطهم في قتل بعض مشجعي كرة القدم، تنديده بفساد الحكومة في القاهرة وتعاملها غير المنصف مع أبناء بورسعيد، مضيفاً، وهنا مبعث الصدمة، أن أهل بورسعيد ملوا وسئموا من القاهرة، وبأنه يريد الاستقلال وتشكيل دولة منفصلة في بورسعيد! والحقيقة أنني قد ذهلت من إجابته تلك التي كان يدلي بها لصحفي نزل إلى الشارع لتغطية المظاهرة. فقد توقعت بالنظر إلى سياق الاحتجاج أنه سيطالب بإعادة محاكمة المتهمين، أو أن يركز على مطلب تغيير الحكومة، ولكن لم يخطر ببالي أبداً أن يطالب بالانفصال عن مصر وتشكيل دولة بورسعيد! وعلى حد علمي لم أسمع قط بحركة انفصالية في المدينة تدافع عن حقها في الانفصال عن القاهرة! ومع أني لست من المؤمنين بنظرية المؤامرة، إلا أن السياسية الدولية تعتمد أساساً على التدافع من أجل التأثير والهيمنة، ولتحقيق ذلك تظل كل السبل مشروعة بما فيها الخديعة والكذب، بل واللجوء إلى القوة.

وعلى رغم ما ينطوي عليه اللجوء السافر للقوة من خطورة وانتهاك للقانون الدولي والأعراف المتفق عليها، إلا أنها تظل وسيلة معمولاً بها على الساحة الدولية تُستخدم أحياناً لبلوغ أهداف سياسية. ولعلنا نذكر في هذا السياق قرار إدارة بوش باستخدام القوة لغزو العراق، وذلك بدعم من وسائل الإعلام الرئيسية التي شجعت على المغامرة العسكرية قبل الغزو، وقد سجل الأسبوع الماضي الذكرى العاشرة لخطاب كولن باول الشهير أمام مجلس الأمن الدولي في دفاعه المستميت عن التحرك العسكري ضد العراق، عارضاً أمام الحضور ما اعتبره أدلة دامغة تؤكد امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل! حينها قالت "واشنطن بوست" إنه "من الصعب بعد خطاب كولن باول تصور أن العراق لا يملك أسلحة فتاكة"! والأمر نفسه ذهبت إليه "نيويورك تايمز" التي اعتبرت أن باول "كان مقنعاً لأنه ركز على صياغة أدلة حقيقية ضد نظام صدام حسين"! واليوم وبعدما تأكد للجميع أنه لم يكن هناك وجود لأسلحة دمار شامل في العراق، وأن الدفاع عن الحرب كان مبنياً على حملة مكثفة من التضليل والأكاذيب، رجعت "نيويورك تايمز" لتكتب أنه "بعد عشر سنوات يمثل خطاب باول شهادة تاريخية على الخديعة المشينة التي قادت إلى المجازر"!

وبالرجوع إلى موضوع بورسيعد ودعوات الانفصال، فإن جذور نظرية المؤامرة التي غذت النقاشات اللاحقة حول ذلك المطلب تعود إلى الأهداف التي وضعتها الحركة الصهيونية للشرق الأوسط، وهذه الأهداف لا تخرج عن تفكيك الدول العربية إلى كيانات صغيرة وضعيفة تقوم على أسس طائفية ومذهبية، وتكون غير قادرة على تحدي الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.

ويؤكد هذا الطرح ما ترجمه البروفيسور، إسرائيل شاحاك، من الجامعة العبرية في عام 1982 من وثيقة صادرة عن "المنظمة الصهيونية العالمية" بعنوان "استراتيجية إسرائيل خلال الثمانينيات"، حيث أكد البروفيسور "شاحاك" في مقدمة الوثيقة التي نشرها أن الخطة الصهيونية للشرق الأوسط "تقوم على تقسيم المنطقة كلها إلى دويلات صغيرة وتفكيك الدول العربية الموجودة"! وإذا نظرنا إلى الواقع الحالي نجد أن ليبيا أضعفت، والسودان قسم، وحُيّد العراق بسبب الصراع الداخلي الذي فاقم منه التدخل الأميركي، وحصول منطقة كردستان العراق على شبه استقلال، فيما لبنان ضعيف وسوريا تدمر حالياً، والأردن فقد وقع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولذا تبقى مصر القوة هي التي تحظى باهتمام خاص، وهو اهتمام يرجع إلى ما قبل نشر وثيقة "المنظمة الصهيونية العالمية"، فعندما أصبح عبدالناصر هو الحاكم الفعلي لمصر في 1954 أبدى موقفاً إيجابياً في مساعيه للسلام، وبخاصة مع رئيس الوزراء، موشي شاريت، بهدف التوصل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية. ولكن استعداد عبدالناصر للتفاوض مع إسرائيل من أجل السلام هدد الاستراتيجية الصهيونية القائمة على التوسع التي لا يمكن تحقيقها، إلا من خلال القوة وبغطاء أن إسرائيل تعيش في خطر دائم، وهكذا تسببت موافقة شاريت على الدخول في مفاوضات مع عبدالناصر في إثارة غضب الصهيونية العالمية التي أوعزت لديفيد بن جوريون بتنحية شاريت وتولي السلطة ليشرف مع الفرنسيين والبريطانيين على العدوان الثلاثي على مصر في 1956. ومع أن الهجوم فشل في إسقاط عبدالناصر، إلا أنه قضى على فرص التفاوض مع إسرائيل.

وقد ظل هدف إضعاف مصر مسعى محورياً في السياسة الخارجية لإسرائيل وركيزة أساسية في استراتيجيتها تجاه المنطقة، ولم يتغير الأمر إلا بتوقيع السادات على معاهدة السلام في كامب ديفيد لتخرج مصر من معادلة الشرق الأوسط وتستفرد إسرائيل بإرهاب جيرانها دون تعرضها للعقاب، وذلك كله في ظل عجز مصر تحت حكم السادات ومبارك عن القيام بأي شيء عدا الإدانة اللفظية. وبمجيء النظام الجديد أدانت مصر بشدة الهجمة الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، فيما طالبت بعض القوى السياسية بمراجعة معاهدة السلام الموقعة مع إسرائيل، وفي جميع الأحوال تبقى الخطط الاستراتيجية لإسرائيل تجاه مصر هي نفسها متمثلة في الدعوة لإعادة احتلال سيناء، وزعزعة استقرار مصر من خلال دعم إنشاء دولة قبطية في الصعيد وإقامة دولتين سنيتين في الشمال والجنوب، ولذا فإن ذلك المتظاهر الذي طالب بانفصال بورسعيد عن القاهرة لم يكن يعرف أنه يخدم الاستراتيجية الصهيونية دون قصد.