إعلام البقدونس...أمجد عرار

إعلام البقدونس...أمجد عرار
إعلام البقدونس...أمجد عرار

إعلام البقدونس...أمجد عرار

حَدّث إعلامي في جزء محتل من الوطن العربي أنه ضاق ذرعاً تحت وطأة الاضطهاد الذي أوقعته عليه المؤسّسة الإعلامية التي كان يعمل فيها بمنتهى الوفاء والإخلاص، على الأقل كما يحس، لكنّه قوبل بالجحود والمحاصرة والتهميش والقرارات المتعسّفة، فيما هو يرى بأم عينه إلى أي مدى تتفشى المحسوبية وسوء التقييم والفساد بكل أشكاله . ولأنه لم يجد حلاً لما كانت عليه حاله، خطرت له فكرة أن يتوجّه إلى البلدية طلباً لوظيفة عامل نظافة، إدراكاً منه أن العمل في جمع القاذورات أنظف من الواقع الذي لا يستطيع أن يغيّره قيد أنملة . كان يرسم في مخيّلته سيناريو احتجاجياً يستقطب عشرات الإعلاميين الذين يعرفونه، بحيث يرون زميلهم الإعلامي يجمع القمامة في الشارع، ويتحوّل المشهد إلى قضية، ليس انتقاصاً من قدر عامل النظافة، وهو في الحقيقة أكثر أهمية من بائع الكلام، بل وفقاً لمبدأ الشخص المناسب في المكان المناسب .

تلك الواقعة حضرت من وحي حدث مشابه في تونس التي غمرها “الربيع” . ففي يوم ياسميني مشرق من أيام البلاد التي صارت “خضراء أكثر” تحت راية “النهضة”، بات بإمكان المواطن التونسي، وعابر السبيل العربي أو الأجنبي، أن يشتري ربطة بقدونس من دون الحاجة للتوجّه إلى سوق الخضار أو “الحسبة”، والتوهان في زحمتها، والدوخان وسط ضجيج الباعة وأهازيج الطماطم والكوسا والباذنجان الأشد سواداً من كثير من الأيام . ولأن العرض البقدونسي ليس هنا مكانه الطبيعي بل السوق الخضراء، فإن المشتري سيضطر لدفع اثني عشر دولاراً مقابل ربطة البقدونس الواحدة، ربما على سبيل دعم سيولة القناة، كما قال مسؤولوها، أو على سبيل التشبّه بالاعتبارات السياحية .

في عصر الإعلام المموّل بأكثر مما ينتج، نجد قناة فضائية تونسية، وهي خاصة بطبيعة الحال، تخصص يوماً وطنياً لبيع “البقدنوس” أمام مقرها في محاولة تهدف لتجاوز أزمة مالية خانقة دفعتها للجوء إلى هذه الطريقة رداً على مقترح ساخر تقدم به أنصار حركة “النهضة” الحاكمة للعاملين في القناة ببيع البقدونس، بعدما أعلن مسؤولون في القناة عن حاجتهم إلى تبرّعات أو مستثمرين تجنباً للإفلاس .

بات واضحاً أن الإعلام تقدّم كثيراً ليكون على خط الجبهة الأول في حروب المصالح وتصفية الحسابات . لكن سمته الأهم، في العصر الفضائي والعنكبوتي، أن الكفاءة والمهنية والنزاهة، إن وجدت، تحتل آخر مقومات نجاحه . ثم يأتي بعد ذلك عيب في شرائح واسعة من المتلقين ما زالت تعيش عصر صدقية الصحف الأولى، وهي بالتالي عرضة للوقوع فريسة للتضليل والتصديق الساذج لكل ما ترى وتسمع بلا إحساس بالحاجة لفلسفة التحقّق، أو نزوع للسؤال عن إمكان انسجام المهنية مع التعبئة والتحريض على الشاشة ذاتها، وعن مدى التناقض بين الصدقية والعمل على هدف لخدمته وتمريره، وعن علاقة المال بكل ذلك، وعن نسبة النجاح المحتملة لإعلام فقير ونزيه مقابل إعلام غني وفاسد كثيرون من المتابعين للشأن الإعلامي في تونس يؤكدون أن السلطة الرابعة لم تكف عن أن تكون بوقاً تبريرياً للسلطة التنفيذية، وأن الاتساع الأفقي المتمثّل بإطلاق المزيد من وسائل الإعلام لا يعكس تغيّراً نوعياً في مجال الحريات، ما يتواكب مع الانتفاضة الجميلة التي كنست أهم رموز النظام السابق، حيث استمرّت ملاحقة الإعلاميين بسبب عملهم . هذا وضع الإعلام في تونس في طور المخاض، وإذا لم يؤد الإعلام واجبه في إعادة بناء البلاد، فإن من الطبيعي أن تظهر قناة أخرى تبيع الفجل أمام مقرها .