حديد مصر وحريرها / بقلم خيري منصور

حديد مصر وحريرها  / بقلم خيري منصور
حديد مصر وحريرها / بقلم خيري منصور

حديد مصر وحريرها  / بقلم خيري منصور

الأغنية الوطنية الشهيرة للراحلة أم كلثوم “مصر تتحدث عن نفسها”، غالباً ما كانت إذاعتها تقترن بمشاهد من تاريخ مصر بدءاً من الفراعنة، ويبدو أن مصر تحدثت عن نفسها طويلاً من خلال الغناء والرسم والموسيقا ومختلف حقول الإبداع، لكنها الآن تنتقل إلى طور آخر هو دفاعها عن نفسها، وهذا الدفاع لا يقتصر على غزاة من خارج حدودها، بل عن تلك القوة التي تميزت بها في السلم والحرب على السواء، وهي القوة التي يسميها جوزيف ناي “القوة الناعمة”، ورغم أن هذا المصطلح يرد كثيراً في سياقات إعلامية، فإن المقصود به أبعد من هذه الدلالات المتداولة .

فالقوة الناعمة ليست فنوناً وآداباً وقوانين مدنية فقط، إنها ما يفيض عن حاصل جمع هذه الأنشطة وهو الروح، لأن رائحة الوردة قد لا تجد لها مكاناً في تشريحها وإعادتها إلى مكوناتها . وهذا الفائض الروحي والمعنوي له القدرة على عبور الآفاق والحدود ولا يستأذن أحداً في نفوذه السلمي الناعم، فالحرير قد يفلّ الحديد وليس العكس كما يقال، لهذا كانت خيوطه تستخدم في الشنق في بعض العصور .

حين تحدثت مصر عن نفسها استلهمت ما ورد عن اسمها في القرآن الكريم، مثلما استلهمت آثاراً تشهد على ما سماه د . جمال حمدان عبقرية المكان، وكان هناك إجماع أو شبه إجماع على الأقل على هذا الدور وهذه القوة السلميّة الناعمة، لكن الزمان تبدل وأحجية أبي الهول وجدت من يفكّكها وبقي في مكانه، وكذلك الأهرام التي نافست مصر على الشهرة، وحين نقرأ ما كتبه الرحالة والمستشرقون عن أرض الكنانة بدءاً من كتاب إدوارد لين ومذكرات فلوبير ونيرفال وآخرين، نجد أن ما كان يجذب هؤلاء ليس فقط النيل الدافئ، ولا الأساطير التي تحف به ولا عذاراه الخالدات من نخيل يموت واقفاً، بل تلك الروح المتسامحة والدينامية المدنيّة الهاضمة والمستوعبة لكل ما يصل إلى مصر، فهي واحدة من البلدان القلائل التي لم تصب بالغثيان الديموغرافي أو عسر الهضم بسبب وجود الآخرين فيها، وأقرب مثال حي هو أن أعظم شعرائها بالعامية المصرية كانوا من المهاجرين إليها، من بيرم التونسي إلى فؤاد حداد .

هذه الخاصية في دينامية الامتصاص والتمصير أصبحت الآن مهددة، لهذا فمصر لم تعد تتحدث عن نفسها من خلال أم كلثوم أو صلاح جاهين ونجيب محفوظ، بقدر ما أصبحت تدافع عن نفسها ضد الانكفاء والعزلة وعسر الهضم الحضاري والفكري .

والدفاع عن النفس في مثل هذه الحرب البيضاء لا يكون بالمدافع والدبابات، بل بالكتاب والفيلم واللوحة والموسيقا وفلسفة التعايش بتسامح إنساني .

ولو عادت الراحلة أم كلثوم إلى الحياة لرفعت أولاً الحجاب الذي وضعه أحد المتشددين على وجه تمثالها وغنت “مصر تدافع عن نفسها”، والمجتمعات التي كدحت قروناً كي تفتح أبوابها ونوافذها للشمس، تموت وتتلاشى قوتها إذا سجنت في الأقبية، ومن الطبيعي أن يصل من تحدث عن نفسه طويلاً إلى مرحلة الدفاع عن هذه النفس .