المقاومة... بالبقدونس بقلم عائشة سلطان

المقاومة... بالبقدونس  بقلم عائشة سلطان
المقاومة... بالبقدونس بقلم عائشة سلطان

المقاومة... بالبقدونس

بقلم عائشة سلطان

لجأت إحدى المحطات التلفزيونية المعارضة لنظام حزب النهضة التونسي - منذ أيام عدة - إلى حركة تعد غرائبية بعض الشيء، حين قررت بيع البقدونس للناس بدل التفرغ لملاحقة آخر الأخبار ومتابعة هموم الإعلام والإعلاميين، والسبب كما يقول مديرها له علاقة مباشرة بمنسوب الحرية الذي تراجع كثيراً في تونس بسب تضييقات حزب النهضة والموالين له الذين صاروا يضغطون على شركات الإعلان والمعلنين ليتوقفوا عن التعامل مع الإعلام المعارض، وهو سلوك مفهوم في ظل سيطرة العقلية الشمولية أو الإلغائية التي لا تعترف بالآخر فكراً ووجوداً، فكيف إذا كان هذا الآخر إعلاماً مهمته ترسيخ مشهد سمعي وبصري مختلف ومؤثر في الجماهير وفي توجهاتها وحركتها في الشارع والحياة؟

إما إن كان حزب النهضة وأعوانه ومؤيدوه يضغطون أم لا ويستخدمون شبكات التواصل الاجتماعية للسخرية وشن حملات التأليب على الإعلام المعارض، فالأمر يحتاج إلى تدقيق وتمحيص وبحث، وإما أن حرية الإعلام في تونس قد تراجعت - وهي في الأساس كانت متدنية جداً منذ عهد الرئيس السابق بن علي - فهذا مؤكد رجوعاً إلى تقارير منظمات الصحافة العالمية ومنظمة مراسلون بلا حدود التي أقرت أن نسبة التراجع بلغت 4 درجات تقريباً، وبعيداً عن كل هذا اللغط، فإن بيع الإعلاميين لربطات البقدونس أمام أبواب المحطة مشهد لا يمكن أن يمر على العقل السياسي أو الذاكرة الثقافية ببساطة، بل إنه يمكن أن يحيلنا إلى جميس سكوت وكتابه الشهير «المقاومة بالحيلة»!

يمكن اختصار مضمون الكتاب بتعريف عنوانه «المقاومة بالحيلة» من وجهة نظر الكاتب الذي يرى أنه يصبح أمراً واقعياً أن يهمس المحكوم خلف ظهر الحاكم بما يريد وبأكثر الأشكال احتيالاً حين تنعدم وسائل حرية التعبير تماماً، فالجماعات الضعيفة والمهمشة والمستضعفة حين تعجز عن مواجهة نفوذ السلطة أو أعوانها، فإنها غالباً ما تلجأ إلى الحيلة والالتفاف على الطريق المستقيم، ولكن بشكل لا يخلو من فرقعة يسمعها الجميع، فالنكتة السياسية الصارخة والمسرحية السياسية الساخرة والكاريكاتير الذي يشبه طعم السكين في قاع الجرح - رغم ما يصاحبه من ضحك - ليس سوى مقاومة بالحيلة، وكذلك بيع البقدونس، فالبلد (تونس) الذي صدَّر لجيرانه ثورة الياسمين للإطاحة بالأنظمة الفاسدة انتهى إلى بلد يرفع إعلاميوه بل ويبيعون... البقدونس!!

بين الإسلاميين وممارسة السلطة السياسية حاجز زجاجي سميك يجعلهم لا يقدّرون معنى ومغزى ومركزية الحرية في النظام السياسي والاجتماعي المحلي والعالمي في أيامنا هذه، كما أن انعدام خبرة الممارسة لدى الجماعات والأحزاب المتأسلمة لم يمكنها أو لم يسمح لها بمحاولة الإنصات لاحتياجات الناس، فتركت الحاجز بينها وبينهم، وصارت تتفرج عليهم دون أن تتفهم ما يريدون، وفي الحقيقة فالجماهير التي اجترحت معجزة الثورة ونثرت جرح الياسمين على الجغرافيا العربية لم تكن جائعة للخبز فقط، لذا باع الإعلاميون البقدونس - وليس الخبز - لتصل رسالتهم لمن يهمه الأمر بأنهم يريدون الحرية الخضراء النقية التي تشبه ربطة بقدونس خضراء طازجة وفي متناول كل مواطن! ربما لا تكون حيلة، ولكنها حتماً مقاومة!