بطالة النخب ... خيري منصور

بطالة النخب   ...  خيري منصور
بطالة النخب ... خيري منصور

بطالة النخب         

خيري منصور

الكاتب ليس طبيباً يكتب تقريراً عن حالة مريض في طور الاحتضار بموضوعية وحياد، ولو كتب عشرة من الكتاب عن معركة أو حتى عن قطة أو شجرة لأصبح لدينا عَشرُ معارك وعشر أشجار وعشر قطط .

لهذا تحل الأوركسترا مكان العزف المنفرد مثلما يحل قوس قزح بأطيافه مكان اللون الواحد، وما يُكتب الآن عن واقعنا العربي يُعدده، رغم أن الفساد واحد بمفهومه الجذري وكذلك الديمقراطية والفوضى والشفافية، فهل أصبح المشهد بسبب هذا الاختلاف في المقاربات والتناول غابة بلا طريق؟

أم أن البانوراما تتشكل أخيراً من حاصل جمع المقاربات، حيث ما من واحدة تنفرد بالحقيقة كلها، تماماً كما تقول أسطورة هندية عن ستة عميان سقطوا فوق فيل، فوصف كل واحد منهم الجزء الذي ارتطم به، والفيل في النهاية هو مجموع هذه الأوصاف .

بالطبع لسنا جميعاً من العميان، وواقعنا ليس فيلاً أبيض أو أسود، لكننا نضطر أحياناً إلى الاستعانة بهذه التشبيهات كي نخرج ولو قليلاً من التجريد والتعميم الذي يجعل الفيلة أو الأبقار كلها سوداء في الليل كما يقول الفيلسوف هيجل .

إنه واقع تشتبك فيه التناقضات كلها، ففيه الثائر والمارق والباحث عن ظلام تستطيل فيه يداه وفيه البريء والحالم، فهو ليس مشطوراً بالسكين كبيضة أفلاطون الشهيرة إلى قديس وشيطان أو ذكورة مطلقة وأنوثة مطلقة، لهذا فإن النخب التي تتنطع لقراءة المشاهد المعقدة مُطالبة أولاً بفك الاشتباك بين تلك النقائض، فالفوضى ليست ثورة وإنما هي من مضاداتها لأنها تخلط نابلها بحابل التدمير، وثمة فارق جوهري بين العدمية التي تُفرغ كل شيء من محتواه وبين حرية تدرك حدودها التي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين بأبسط تعبير ممكن .

فقد أدى خلط الأوراق والمفاهيم إلى حذف الخط الفاصل بين ما للرب وما لقيصر، وثمة قياصرة جدد يرتدون أقنعة القديسين، كما يرتدي القراصنة أقنعة المنقذين من الغرق، ولم تمر النخب العربية منذ قرون بمثل هذا الاختبار العسير، لا للضمائر فقط، بل للوعي ومنسوب الإدراك والدراية بالتاريخ وحركته وجدليته . فالعربي تائه بين أطروحات كلها تزعم احتكار الصواب، فما كان حلماً تحول إلى كابوس وما كان وعداً بالأجمل والأبهى انتهى إلى ما نحن عليه، وهو لا يحتاج إلى توصيف لأن سطحه مُثقل بما يطفو عليه من جثث ودماء ولاجئين وسماسرة أيضاً .

لقد تحدث فلاسفة وعلماء عن الحمل الكاذب والفجر الكاذب، ومنهم اشبنجلر الذي تحدث عن تضاريس وجيولوجيا كاذبة تخترعها العين الكليلة مثلما تخترع العين الظامئة السراب .

المطلوب الآن، وعلى الفور، تسمية ما يحدث بالاسم الصريح، وبعيداً عن فقه النفاق المزدوج الذي كان تارة للسلطة وتارة أخرى للشارع .