"غطيني يا صفية"...بقلم ... يوسف الحسن

"غطيني يا صفية"...بقلم ... يوسف الحسن
"غطيني يا صفية"...بقلم ... يوسف الحسن

"غطيني يا صفية"...بقلم ... يوسف الحسن

أحاول تجاوز لعبة الكلمات المتقاطعة في حياتنا السياسية والثقافية الراهنة، بشيء من فائض الخيال السياسي، وبما يكفي لاستشعار الخطر على أوطاننا وأمتنا، وأحلام عرب بسطاء . مستحضراً ما قرأته عن أسباب نهوض وسقوط الحضارات والأمم، وعن تفكيك الأوطان أو كسرها، وحتى عصرها، وعن أخطاء نخب تحولت إلى خطايا بمجرد أنها تعتقد أنها معصومة وتحتكر الحقيقة، وتفصح نواياها عن ممارسات مريضة .

أستشعر القلق، أمام مشهد الواقع، ولما نرى فيه ونسمع على مدار الساعة، وعلى امتداد بلدان ما يسمى ب “الربيع العربي”، وهو واقع في حالة نزف، وتكثر فيه الأقنعة، وتحتقن مناخاته بالعنف، والقنوط والعدمية، وفقدان الرجاء بالخلاص .

في حوارات وندوات فكرية، شاركت فيها خلال الشهرين الماضيين، في الدوحة والمنامة وبيروت وعمان وصنعاء والشارقة . هالني فائض التجاذبات السياسية والاعتبارات المذهبية ونزعات الهويات الفرعية، وأذهلني انكشاف عورات الأحزاب والقوى السياسية العربية، ونخب عزلت نفسها عن الشارع، وغابت عنها الرؤية واستوطنتها خيارات تراوح ما بين السيئ والأسوأ .

وإجاباتها عن أسئلة طرحها نهضويو العرب في القرن التاسع عشر، تبدو متخلفة عن إجابات طرحها إصلاحيون في تلك الأزمنة .

يشعر المواطن العربي هذه الأيام بدوار البحر، وهو على اليابسة، أمام ما يسمع ويقرأ ويرى، في أزمنة صارت فيها النشرة اليومية للفوضى والترويع والقتل، تشبه النشرة الجوية، نستقبلها بلامبالاة، وأحياناً نحزن لأجلها قليلاً، رغم أن أجراسها تسمع حتى الأصم، وآلامها غير مسبوقة، وتطرح علينا أسئلة الفزع والحرائق الممتدة .

تعالوا نغمض أعيننا قليلاً، ونتصور معاني قرار بريطانيا مؤخراً بمنع دخول كبد الأوز الفرنسي (FOIE GRAS) إلى أراضيها، لقلقها إزاء سوء معاملة الأوز والبط في فرنسا (إطعام الأوز الذرة بالإكراه)، إذ إن حرية الأوز، لها أولوية .

هل أدرك بعضنا الآن متأخراً، مخاطر استمرار النزف والدمار والتقسيم والغلو، فمال إلى الحوار والنضال السياسي السلمي؟ وهل أدرك بعضنا، ولو متأخراً، أننا كعرب لا نستطيع رؤية سوريا مدمرة وفي قبضة الفكر (القاعدي) المنحرف، والفوضى الدموية؟

هل لو دعم بعضنا النضال السلمي السوري الذي لو استمر، لتغيرت المعادلة لمصلحته، ولما تمكن المتقاتلون، من حكم ومعارضة مسلحة، من الوصول إلى قتل ستين ألفاً، وتهجير الملايين، واستدعاء “المقاتلين الجوالين” من كل حدب وصوب؟

يبحث المواطن العربي البسيط والحزين، عن “شهود حق” بعد أن كثر “شهود الزور”، في المنتديات والفضائيات، ويصاب بالهلع، أمام مشهد الذين اختزلوا الإسلام من ناحية، والذين احتكروا “المدنية” من ناحية أخرى، وقسموا مجتمعاتهم، إلى خنادق متقابلة، وثقافات متعارضة، ولا يريدون سماع غير ما يشتهون رؤيته، بعيداً من الحوار الحيوي الفاعل وعن تعظيم الجوامع في ما بينهم، واحترام الفروق .

هل عجزنا عن استحضار معاني وجوهر (وثيقة المدينة) التي أرست قاعدة الانتماء الوطني، وخلطنا ما بين المقدس والنسبي في الممارسة السياسية والحياة الاجتماعية والعيش المشترك؟

الكل محشور، هذه الأيام، داخل شرنقته، وفي صندوق الأنا والأنانيات، والهوس بالسلطة، وإطلاق شياطين الغلو من قمقمها، وتهريب مسائل الخبز والحرية والعدالة الاجتماعية والنزاهة والموضوعية والإنصاف .

في مؤتمر صنعاء، قبل أيام، تساءل بعضنا عن طبيعة معادلة معقدة، لكنها خاسرة في نهاية المطاف، ومفادها “إن تيار الإسلام السياسي (المعتدل!!) له خطابان، واحد معلن وآخر مضمر، فهو مع استرضاء تيارات الغلو والعنف، ومع استرضاء الغرب في وقت واحد، كما أنه يدعو بالنصر “للقاعدة” و”النصرة” في سوريا ومالي والعراق، ويخذلهما ويدعو عليهما في عمان والقاهرة، كيف يمكن أن يكون المرء مع الله والقيصر في آن؟ وكيف تستقيم “الوطنية والمقاومة” مع الخرائط التقسيمية الصغيرة في وقت واحد؟ وضربنا مثلاً على ذلك في صنعاء، وقلنا إن زعيم الانفصاليين في جنوب اليمن”علي سالم البيض”، يقيم منذ شهور في الضاحية الجنوبية في بيروت، وبدعم وحماية الذي وفرّ له فضائية “عدن لايف” في الضاحية . واستحضر بعضنا كيف كان القذافي يمد جون قرنق زعيم حركة انفصال جنوب السودان بالمال والسلاح “نكاية” بنظام الحكم في الخرطوم . وتساءلنا عن هذه المخاطرات الأخلاقية التي لا تقود إلا إلى الخراب والأمثلة كثيرة، وكثير منها موجع وعبثي، وألعاب القمار، ونكاية بهذا أو بذاك، ووكالة عن “آخر” خارج الوطن، أو لمصلحة أجندات ملتبسة، و”تورّم قُطري”، ونرجسية سياسية بائسة

كيف يقبل الضمير الأخلاقي العنف، وفتاوى القتل، إذا كان يحقق مصالحه السياسية الضيقة، ويصرخ ضد هذا الخطاب - الخطيئة، إن شعر أن نيرانه ستصيبه؟

هل هي التربويات السياسية، المحشوة بالاحتكار والإكراه والاستحواذ والإقصاء؟ هل هي الثقافة المفرغة من قيم الديمقراطية التي قوامها التنوع والتعدد واحترام الفروق؟ هل هي ضحالة علاقاتنا المعرفية العلمية بهذه القيم؟ هل هو شح في القيادات، ووعي سالب لنخب وتيارات سياسية حولت الوعد إلى وعيد؟

في ندوة أخرى في الدوحة، سمعت نقداً لاذعاً، يحمل في ثناياه عنصرية كريهة، لما سمي “بالمبادرة الخليجية لحل الأزمة اليمنية”، وفي صنعاء تأكدت أن المبادرة هي في الأصل يمنية، وكان يخشى معارضتها أو رفضها من أطراف يمنية، لمجرد أنها يمنية،  واتفق إقليمياً ودولياً، أن تتحول إلى مبادرة خليجية، وأضاف إليها مسؤولون خليجيون مسألتين: الأولى مسألة المواعيد والتزامن، والثانية الحرص على رفض فكرة “مغادرة” زعماء من الأطراف المتنارعة وطنهم، في حين كانت المبادرة اليمنية لتسوية الأزمة، تشمل بنداً يتعلق بمغادرة زعماء قبليين وعسكريين اليمن، والإقامة في الخارج .

كثيرون في ما يسمى ربيع العرب، رسبوا في أول اختبار، حينما كسروا بوصلة الحوار والمشاركة والتكامل، وقرروا الدخول في مصالحة مع “ميكيافيلي”، وإدارة الظهر لأوجاع الشعوب وعطشها وفقرها وأمنها وكرامتها .

في أثناء الاستراحة، ما بين التنظير والجدل والثرثرة، سمعت مثقفاً، يُعلّق على ظاهرة التحرش الجنسي الممنهج، وممارسة الانتهاك الجسدي بشكل منظم، لنساء مصريات في ميدان التحرير، بالقول: “ايه اللي نزّلهم الميدان!!” .

حينما أخطأ عمر بن الخطاب، وأصابت امرأة، لم يتقدم أحد بفتوى اغتصابها أو قتلها .

هل هو عمى سياسي، أو مجرد انحطاط أخلاقي؟

تذكرت ما قاله سعد زغلول: “غطيني يا صفية . . ما فيش فايدة” .