أدونيس ومعاوية.. والدولة العلمانية د. علي حرب

أدونيس ومعاوية.. والدولة العلمانية  د. علي حرب
أدونيس ومعاوية.. والدولة العلمانية د. علي حرب

أدونيس ومعاوية.. والدولة العلمانية

د. علي حرب

تبدو الأزمة في سوريا مستعصية على الحل، بعد أن أصبح هذا البلد العربي فريسة لحرب مركبة، طاحنة ومدمرة، تدور على مستويين: الأول هو الصراع الدموي على مستوى الداخل، بأبعاده الطائفية والعرقية والقبلية، بين النظام الأمني والمعارضة بمختلف فصائلها وهيئاتها المدنية والعسكرية. والثاني هو الصراعات الإقليمية والدولية على أرض سوريا، التي كانت لاعباً فإذا بالتطورات تنقلب ضدها، لكي تصبح ملعباً للتجاذبات والصراعات بين الدول الفاعلة والقوى الكبرى.

 

من هنا تعقد اللقاءات والمؤتمرات العديدة، هنا وهناك، من أجل إيجاد مخرج يوقف حمام الدم ويفتح المجال للحوار الفكري والصراع السياسي. وكان آخرها المؤتمر الذي عقد في جنيف، تحت العنوان: "من أجل سوريا ديمقراطية ودولة مدنية". ألقى الشاعر الكبير أدونيس كلمة في المؤتمر، تحدث فيها عن سوريا بتركيبها البشري التعددي وإرثها الثقافي الغني، ومنجزاتها الحضارية على المستوى العالمي والكوني.

 

ثمة ثابت في موقف أدونيس من الثورات العربية، إذ هو، منذ أن انفجر الوضع في بلده، صار يعتبر أن هذه الثورات قد أسقطت نظام الحكم، ولم تسقط البنى الثقافية والمجتمعية التي أنتجته، أي أنها أزاحت "الكرسي" وبقي "الرأس"، وفقاً لاستعارته البليغة.

 

ولكن أدونيس يعرف أكثر من غيره، أن تغيير بنى المجتمع الغائرة والراسخة بشيفراتها الثقافية وعلاقاتها السلطوية، لا يتم بعد سقوط رئيس ومجيء آخر، وإنما يحتاج إلى جهود حثيثة وجبارة من العمل على الذات، لإجراء التحولات البنيوية في العقليات والمفاهيم، في أنماط التفكير والتخيل.

 

كما في نماذج البناء وأساليب العمل، فضلاً عن تغيير منظومة الحقوق وقواعد التواصل والتعامل. نحن إزاء سيرورة لا تتوقف، من الموجات والقفزات والطفرات، بل تبقى قيد الإنجاز، ولا تكتمل، سيما في هذا الزمن المتسارع بتغير معطياته وسيولة معلوماته وتقلب أهوائه وهشاشة كياناته...

 

فيما يخص سوريا، يعتبر أدونيس أن العنف الفاحش الذي يستخدم على أرضها، والذي يضع شعبها بين جحيم النظام وجحيم المنظمات الأصولية المتطرفة، إنما يتعارض مع قيام دولة مدنية، ديمقراطية، تعددية، بل هو ينسف شعارات الثورة حول الحرية والعدالة، والمساواة في المواطنة من غير تمييز على أساس الطائفة والعشيرة والعرق أو الجنس.

 

ولذا يشدد على أن "ألف باء" الثورة الحقيقية، هي الفصل بين ما هو ديني من جهة، وما هو سياسي وثقافي من جهة أخرى. انطلاقاً من هذا المبدأ، أشار أدونيس في كلمته إلى أن معاوية بن أبي سفيان، كان أول مَن بنى دولة عربية مدنية تقوم على الفصل بين الدين والدولة.

هذا الاستشهاد بمعاوية لفت نظر الصحافي جهاد الزين الذي شارك في المؤتمر، وتحدث عنه في افتتاحيته التي استأثر معاوية بعنوانها (جريدة "النهار" 5/2/2013).

أتوقف عند هذا الاستحضار للخليفة الأموي، لأقول إنه ربما كان الدكتور محمد عابد الجابري هو أول من تحدث عن معاوية فيما يخص إشكالية الفصل بين الدين والدولة، كما شرح ذلك في كتابه "نقد العقل السياسي العربي".

لقد ذهب الفيلسوف المغربي في قراءته لأقوال معاوية ولتجربته في الحكم، إلى أنه أحدث "قطيعة" مع حكم الخلفاء الراشدين، تجلت في الفصل بين الأمراء والعلماء، بين المُلك والشريعة، أي بين المجالين السياسي والديني.

 

ليس هذا وحسب، بل إن معاوية، وكما أقرأ بدوري تجربته، قطع مع النبوة نفسها، وهذا ما لم يشأ الجابري إثارته كي لا يدخل إلى المنطقة الحرجة والخطرة، مما جعله يستبعد في دراساته النقدية التطرق إلى المجال اللاهوتي.

 

أياً يكن، فالمهم أن معاوية، وكما بيّن الجابري نفسه، كان ذا منزع "ليبرالي نفعي". يشهد على ذلك حديثه إلى الذين جاؤوا لتهنئته بعد أن استتب له الأمر، ومطالبته بأن يحكم بسنة الله ورسوله وبما قرره الخليفتان أبوبكر وعمر. ولكن معاوية رفض الحكم بما سنه الشيخان، أما الحكم بسنة الله ورسوله، فهو وإن لم ينفه مباشرة، فقد تجاوزه مداورة. يؤكد ذلك ما ورد في حديثه المذكور:

 

"فلتكن بيننا منفعة متبادلة ومواكلة حسنة ومشاربة جميلة". بهذا يتعدى الأمر مسألة الفصل بين الدين والدولة، نحو إقامة دولة غير دينية، على أساس ما يتعاقد عليه الحاكم والمحكوم.

 

مثل هذا الانقلاب ينطوي على جرأة فكرية، وعلى اجتراح سياسي، فيما يخص ترتيب العلاقة بين الدين والدولة، لم يسبق معاوية إليه أحدٌ، بل لا نجد له نظيراً عند اللاحقين، ولا حتى عند الحداثيين من العلمانيين؛ إنه موقف أكثر تقدماً بكثير من مواقف بعض دعاة التقدم والاستنارة.

 

هذا من جهة الرؤية، أما من جهة الطريقة، فإن معاوية أكّد في حديثه لمن خاطبهم بأنه سيحكم "ببعض الحق، وليس بالحق كله". ولا شك أن مثل هذا القول، الذي يصدر عن حس عملي وعقل ذرائعي، يصدم دعاة الحق الديني أو المدني بمعناه المطلق والأحادي والثابت. ولكن من يطلب الحق على هذا الوجه، يطيح في النهاية بكل الحقوق، كما تشهد تجارب المشاريع والدعوات الطوباوية والمثالية، التي تؤول إما إلى الفشل أو الإرهاب.

يضاف إلى هذه النقلة النوعية في قلب العلاقة بين الشريعة والسياسة، لمصلحة السياسة، الصفات الشخصية التي كان يتحلى بها معاوية كرجل يوصف بأنه نموذج في المكر والدهاء. إنه استراتيجي من طراز رفيع، كما يشهد قوله لابنه يزيد عندما سأله: من يخدع من؟ أنت الذي تعطي الناس الأموال كي يبايعوك أم هم؟ فكان جوابه: يا بني من حاول خداعك فانخدعت له قد خدعته، مقدماً بذلك نموذجاً للسياسي البارع الذي لا يذيع كل ما يعرفه ولا يظهر على حقيقته، لأنه يحتفظ دوماً بأوراق مستورة يلعب بها.

لا يعني ذلك أن معاوية خرج من الإسلام، وهو الذي احتل منصب الخلافة وأسهم في الفتوحات الإسلامية، ولكنه تعامل معه كمشروع حضاري سياسي انخرط في إدارته واستثمره بإقامة سلطانه.

أنهي بالقول إن عودة أدونيس، في كلامه على الجحيم السوري، إلى معاوية، فيها الكثير من دهاء الخليفة الأموي الذي كان أرحم من حكامنا اليوم، بمنزعه الليبرالي وعقله الدنيوي ونهجه التبادلي النفعي؛ وهو ما يشكل الجامع بين معاوية وبين أدونيس، وكل الذين يراهنون، في مواجهة النظام الشمولي العربي، الديني والقومي، الفاشي والعنصري، على بناء مجتمعات تعددية، غنية، قوية، تصان فيها حريات التفكير والتعبير، بعيداً عن منطق التكفير والتخوين