وجبات التاريخ السريعة ... بقلم : خيري منصور

وجبات التاريخ السريعة ... بقلم : خيري منصور
وجبات التاريخ السريعة ... بقلم : خيري منصور

وجبات التاريخ السريعة ... بقلم : خيري منصور

إن للتاريخ تاريخاً أيضاً، هذا ما يقوله مؤرخون من السلالة الخلدونية التي لا تركن إلى كل ما يكتبه المؤرخون، لهذا تحلل وتقارن الروايات ومن ثم ترجح واحدة على سواها، وما نسمعه أو نقرأه في هذا الموسم العربي الذي لا تهدأ عواصفه عن الحراك الشعبي في الغرب منذ الثورة الفرنسية على الأقل يجزم بأن هناك تبسيطاً مدرسياً يحول التاريخ إلى وجبات سريعة . ففي القرن الماضي بدءاً من نصفه الثاني كانت ثقافتنا التاريخية محكومة بنمطين من الترجمة لا يتكاملان بقدر ما يحاول أحدهما حذف الآخر . فاليسار بكل مشتقاته السياسية اختار الروايات التي تكرس أطروحاته وتتناغم معه إيديولوجياً، نقدم ثورات وكومونات وانتفاضات أوروبية وفق منهج رغائبي وانتقائي، بسبب الانحياز المسبق للحراك الشعبي وكأنه حراك طهراني أو بيوريتاني مصفى من الشوائب، مقابل ذلك قدم اليمين قراءاته الانتقائية حول الحراك الذي تشحنه الإيديولوجيا الماركسية بانتقاء أيضاً، وكان علينا أن نقرأ مقابل ما تنشره دار التقدم في موسكو وفروعها في عالمنا العربي ما كتبه برديائيف وسولجنستين وشعراء وعلماء فروا خارج النطاق السوفييتي مثل زاخاروف وبرودسكي وحتى مؤلف رواية “د . زيفاكو” وغيرهم كي لا نبقى أسرى نصف المشهد الذي قدمته الميديا المؤدلجة في ظل رقابة صارمة كالتي جسدها الرقيب الستاليني جدانوف . وما كُتب عن الثورة الفرنسية لم يصورها يوتوبيا، بل هناك من قالوا إنها أكلت أبناءها، وكان ابنها البكر امبراطوراً مستبداً هو بونابرت .

 

ولم يكن الكولوخوز الروسي الأشبه بمحميات بشرية أو معسكرات اعتقال ناعم مدينة فاضلة، لهذا نحتاج الآن إلى إعادة قراءة التاريخ على الأقل خلال القرنين الأخيرين مُحرراً من الإستقاطات الإيديولوجية والانتقاء والحذف .

 

ولأن التاريخ الآن هو أيضاً وجبات سريعة، فإن ما يُكتب ويبث عن المقاربات بين هذا الحراك العربي وتلك الثورات ينقصه التحليل، فأوجه الشبه لا تتوقف عند سطح شارع أو ميدان، أو حتى إعلان عصيان من أي نوع، وثمة سياقات فكرية وحضارية واجتماعية أيضاً يجب أن تُقرأ الظواهر من خلالها، فما كان نتاجاً عضوياً لمرحلة طويلة من التنوير والفلسفة والأجيال الموسوعية المتعاقبة يجب ألا يقارن بسهولة وأداءٍ إعلامي أفقي مع حراكات تسعى إلى إنجاب آبائها وأسلافها من صلبها وليس العكس .

 

ونحن هنا لا نقلل من شأن حراك لمصلحة حراك آخر، لكن للتاريخ منطقه، وبالتالي مناهج قراءته وقد سبقنا اليونانيون بأكثر من ألفي عام حين تخيلوا في إحدى أساطيرهم أن لكل تاريخ عجوزاً ثرثارة تقاطع الرواة سموها “هيكوبا”، ولدينا في هذا العصر عجائز ثرثارات يتفوقن على عجوز أسطورة الإغريق خلطن حابل الدم بنابل الماء وأحياناً رمين القمح وأبقين على الزؤان .