من يحرق؟ من يتحرش ؟ بقلم : عمار علي حسن

من يحرق؟ من يتحرش ؟  بقلم : عمار علي حسن
من يحرق؟ من يتحرش ؟ بقلم : عمار علي حسن

من يحرق؟ من يتحرش ؟

بقلم : عمار علي حسن

لايستبعد أن يكون التخريب والفوضى في مصر مخطط لهما لأهداف معينة زجاجات المولوتوف وأيدى العابثين شيئان مختلفان من حيث جوهر المادة والصورة، لكنهما شيء واحد من حيث الهدف أو الغاية، وهى شيطنة الثورة والثوار، والإمعان فى اللعبة القديمة التى رامت منذ اليوم الأول للثورة إلى فصل الطليعة الثورية عن القاعدة الشعبية، ثم قتل أى قوة سياسية يراها الناس بديلا لمن وصلوا إلى السلطة. هذا جانب من الحقيقة لا يجب أن نغفله حين نجلس إلى تحليل المشهد الراهن على تعقيده وتركيبه، فيذهب المتعجلون والمغرضون معا إلى القول بأن الثوار تحولوا إلى بلطجية وقتلة، وميدان التحرير ينزلق من «البقعة المقدسة» للثورة إلى «ملهى» أو «ماخور»، أما الراسخون فى المعرفة أو الباحثون عن الحق والحقيقة، فيقولون بملء الأفواه: ما يجرى قد يكون مدبرا، والشك بداية العلم، ومن لا يتعلم مما سمع عنه أو رآه بعينيه غير مرة فهو لا شك غافل أو جاهل. لنعد إلى البداية، التى يريد من يحكمون أن ننساها الآن، ونجيب عن السؤال المهم فى هذه اللحظة التاريخية من حياة بلدنا ألا وهو: كيف تعامل أهل الحكم ومعهم أداتهم المفضلة وهى أجهزة الأمن مع الثورة؟ والإجابة: كان «الحزب الوطنى الديمقراطى» الحاكم أيام مبارك يرسل متحرشين لينالوا من المتظاهرات المنضمات إلى الحركة المصرية من أجل التغيير «كفاية»، وبعضهم تحلق حول الصحفية نوال على، رحمة الله عليها، وكادوا يجردونها من ملابسها، وهى تصرخ وتستغيث، وكانت حكايتها مادة للإعلام المقروء والمرئى والمسموع لأيام، ثم كالعادة طوينا الملف، ونسينا لأن: «آفة حارتنا النسيان»، كما يقول نجيب محفوظ فى روايته الشهيرة «أولاد حارتنا». وكنا نخرج فى المظاهرات فنجد مظاهرات مضادة، المشاركون فيها من كادحو الأحياء العشوائية، يقفون حيالنا ويهتفون «يا مبارك دوس دوس.. إحنا معاك من غير فلوس» وكانت ظاهرة لافتة، كتبت عنها فى أيامها مقالا بعنوان «متظاهر بالإيجار»، وكنا نسمع عقب انتهاء المظاهرة صوت هؤلاء، وهم يتشاحنون حول الأجر الذى اتفقوا عليه، بعد أن وجدوه قد نقص قليلا، لأن من اتفق معهم وحشدهم اقتطع لنفسه جزءًا من أجورهم، التى حصل عليها من أحد قيادات الحزب المنحل. واندلعت الثورة فى 25 يناير 2011، واستهدفت خلع مبارك والإجهاز على نظامه، رافعة شعار «الشعب يريد إسقاط النظام»، ولم يكن لدى مبارك سوى «جهاز الأمن» ليتعامل مع المتظاهرين، بعد أن أفلس فى تقديم أى حلول سياسية للأزمة، فلجأت بدوره إلى ما يعرفه وهو الاستعانة بالبلطجية. رأيت نحو مائة منهم دخلوا ميدان التحرير من شارع التحرير عند منتصف الليلة الأولى للثورة، أجسامهم فائضة وعيونهم تقدح شررًا، وعلى وجوه بعضهم آثار جروح غائرة، وقفوا ونظروا إلى الميدان فوجوده ممتلئاً عن آخره، فأدركوا أن الالتحام بالمتظاهرين لن يفيد، فانتحوا جانبا وبعد نصف ساعة تعامل عساكر الأمن المركزى مع الأمر بدفقات غزيرة من الغاز الخانق والمسيل للدموع فانفض الميدان فى دقائق، قبل أن يعود للامتلاء عقب كسر جهاز الأمن بعد ثلاثة أيام فى «جمعة الغضب»، وبعد ساعات انفتحت السجون، وأُطلق البلطجية فى الشوارع يخربون ويكسرون ويحرقون، واتضح فيما بعد أن هذا كان مقصودًا، على غرار ما جرى فى تونس عقب هروب بن على مباشرة، حتى يعود الناس إلى منازلهم، ونجحت هذه الخطة بعض الوقت، لكن تشكيل الناس لجانًا شعبية تدافع عن بيوتهم طمأن الثائرين فعادوا إلى الميادين مرة أخرى. ذهب مبارك وبقى جهاز أمن الدولة وتغير اسمه فقط إلى «الأمن الوطنى»، وكان جاهزًا بالأساليب نفسها، على ما يبدو، لخدمة حكم المجلس العسكرى، فرأينا تحرشًا ممنهجًا واعتداء على ممتلكات مع كل مظاهرة حتى يقول الناس: الثوار مجرمون، وكتبت يومها عن «شيطنة الثورة». وبعد سنة ونصف السنة ذهب المجلس وبقى جهاز الأمن بأساليبه هى هى، وجاء الإخوان، وربما وجدوا فى هذه الأساليب ما يرضيهم ويفيدهم جدًا فى حرق أى بديل، والاستمرار فى تشويه الثوار وشيطنتهم، وأدركنا جميعًا كيف تناقض خطابهم تمامًا حيال الثوار، من «الشباب الطاهر» إلى «المخربين». لذا يجب أن ننظر إلى وقائع «التخريب» و«الفوضى» على أنها فى جانب منها تترجم استمرار الأسلوب القديم نفسه. ولا نتسرع فى بلع طعم الإخوان، ومجاراتهم فى سعيهم إلى حرق أى بديل لهم، وهو نفس أسلوب مبارك أيضا، الذى كان كلما ظهر أى بديل سياسى، حزب أو تيار أو شخص، سارع إلى تشويهه وحرقه حتى لا يجد الناس بدًا من القبول باستمراره، والاستكانة حيال سيناريو توريث نجله. فوصف جبهة الإنقاذ بـ« جبهة الخراب»، والثوار بـ«المجرمين» ليس تعبيرًا دقيقًا عن الواقع، إنما هو مساعٍ لرسم صورة كريهة للمعارضين والشباب الراغبين فى استكمال الثورة، مع استغلال بعض الأخطاء التى يقع فيها المعارضون. على المنوال ذاته أتساءل: ما الذى يمنع أن يكون هناك من يؤجر البلطجية والمتحرشين لتشويه المشهد؟ ولعل الشهادات التى سمعناها عن كيفية بدء لحظة إلقاء زجاجات المولوتوف على قصر الاتحادية، أو كيف يتم التحرش بالفتيات فى ميدان التحرير تفك جزءًا لا يستهان به من لغز ما يجرى الآن. أعرف أن هناك قطاعًا من الشباب بدأوا يكفرون بالمسار السلمى للثورة، ويرفعون شعار «خالتى سلمية ماتت»، وأعرف أن هناك من يتبنى أفكارًا لا ترى غضاضة فى ممارسة العنف تحت لافتة «جذرية التغيير تتعمق بقدر ما يراق من دماء»، علاوة على جمهور غاضب من إدارة البلد بطريقة فاشلة وسيئة، وكذلك قدرات لا تزال باقية للنظام القديم كى يرتبك المشهد، لكن كل هذا لا يجب أن يجعلنا نتغافل عن مناقشة احتمال أن يكون جانب من الحرق والتحرش مدبرًا، على غرار ما كان يحدث أيام مبارك.